هل هذا هو نهاية القرن الأمريكي؟.. الترابط المتبادل والقوة الناعمة والنظام الليبرالي

05:396/06/2025, الجمعة
تحديث: 30/06/2025, الإثنين
قدير أوستون

يتناول المقال المنشور في مجلة «فورين أفيرز» بعنوان «نهاية القرن الأمريكي الطويل»، للراحل جوزيف ناي الابن وروبرت كيوهين (الذي توفي أحدهما الشهر الماضي)، كيف أن القوة الناعمة الأمريكية قد تراجعت نتيجة سياسات ترامب. ويرى الكاتبان بأن القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة لا يمكن أن تصمد من دون هذه القوة الناعمة، ويحذّران من أن خطوات ترامب مثل فرض الرسوم الجمركية، والانسحاب من الاتفاقيات الدولية، واتباع سياسة عقابية تجاه الحلفاء قد أضعفت هذه القوة الناعمة على المدى الطويل. ويؤكد المقال أن القوة

يتناول المقال المنشور في مجلة «فورين أفيرز» بعنوان «نهاية القرن الأمريكي الطويل»، للراحل جوزيف ناي الابن وروبرت كيوهين (الذي توفي أحدهما الشهر الماضي)، كيف أن القوة الناعمة الأمريكية قد تراجعت نتيجة سياسات ترامب.

ويرى الكاتبان بأن القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة لا يمكن أن تصمد من دون هذه القوة الناعمة، ويحذّران من أن خطوات ترامب مثل فرض الرسوم الجمركية، والانسحاب من الاتفاقيات الدولية، واتباع سياسة عقابية تجاه الحلفاء قد أضعفت هذه القوة الناعمة على المدى الطويل.


ويؤكد المقال أن القوة الحقيقية لأمريكا مستمدة من النظام القائم على الترابط المتبادل، وأن تفكيك هذه الروابط من شأنه أن يُآكل التفوق الأمريكي. كما يطرح المقال فرضية مفادها أن ترامب كان يحاول في آنٍ معًا فرض أمريكا على العالم من جهة، والابتعاد عنه من جهة أخرى، لكن استهدافه للترابط المتبادل نخر أسس القوة الأمريكية.

تراجع "القوة الناعمة" الأمريكية


من أبرز النقاط التي يسلّط عليها المقال الضوء، أن «القوة الناعمة» القائمة على الجاذبية والإقناع قد تعرّضت للتآكل على يد ترامب بشكل غير واعٍ وفظّ. ورغم أنه يمكن انتقاد الكاتبين للمبالغة في تقدير قيمة القوة الناعمة، إلا أن المقال لا يواجه حقيقة أن أمريكا تمكّنت من تخطي أزمات كبيرة (فيتنام، العراق، أزمة 2008، جائحة كوفيد-19) بفضل قوتها العسكرية والاقتصادية مع احتفاظها بجاذبية معيّنة.


وهذا لا يعني بالطبع أن القوة الناعمة غير مهمة، لكن يمكن القول إن المقال يبالغ في أهمية المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة وحلف الناتو وصندوق النقد الدولي، رغم أنها تواجه منذ فترة طويلة أزمة هيكلية عميقة ولا توجد لها بدائل حقيقية حتى الآن للحفاظ على النظام السياسي والاقتصادي العالمي.


إحدى النقاط الأخرى التي يمنحها الكاتبان وزناً كبيراً هي أن سياسات ترامب الخارجية أضعفت النظام الدولي. غير أن التركيز على ترامب كسببٍ وحيد ينطوي على خطر إغفال أنه في الواقع نتيجة أيضاً. فصعود الصين، وسعي أوروبا إلى الاستقلال الاستراتيجي، والسياسات التي تبنّتها دول الجنوب العالمي لتحقيق التوازن والتنوع، والتفاوتات الاقتصادية العميقة التي تغذي ردود الفعل القومية — كلها ظواهر لا يمكن اختزالها في عهد ترامب فقط.

بل يمكن القول إن ترامب كان بمثابة ردّ فعل من قوة عظمى لم تعُد تعرف كيف تتعامل مع هذه التحولات، فاتجهت إلى التشدد لإعادة ترسيخ سلطتها. وفي هذا السياق، فإن اعتماد أمريكا على وسائل الردع والعقاب ضد الدول التي تربطها بها علاقات ترابط متبادل، قد يكون في جوهره انعكاساً لحالة من العجز.


ديناميكيات الترابط المتبادل


من النقاط اللافتة في تحليل الكاتبين حول الترابط المتبادل هو تأكيدهما على أن الدولة التي تعاني عجزاً تجارياً يكون لديها في الواقع أوراق ضغط أكبر. فعلى سبيل المثال، في العلاقات بين أمريكا والصين، تمتلك الولايات المتحدة التي تعاني من عجز تجاري كبير أدوات فعالة كفرض الرسوم الجمركية، في حين لا تفتقر الصين إلى قدرات انتقامية.

وفي علاقاتها التجارية مع كندا والمكسيك، تحتفظ أمريكا بقوة ردعية قادرة على فرض السلوك المطلوب على المدى القصير. غير أن هذه الأساليب القسرية التي تعتمد على القوة الصلبة تؤدي في النهاية إلى تآكل جاذبية القوة الناعمة، ما يُضعف أسس القوة الأمريكية على المدى البعيد. يستشهد الكاتبان باستطلاع «غالوب» الذي أُجري في 133 دولة، ويشير إلى أن أمريكا ما زالت تحافظ على جاذبية (81 نقطة) تفوق الصين (52 نقطة)، لكن سياسات ترامب قد تُلحق الضرر بذلك.


يدافع المقال عن أن العولمة الاقتصادية تصبّ في نهاية المطاف في مصلحة استمرار القوة الأمريكية، لكنه يشير إلى ميل الزعماء الشعبويين إلى تجاهل التغيرات التكنولوجية والدور المتنامي لرأس المال، مفضلين بدلاً من ذلك إلقاء اللوم على المهاجرين والأجانب. ويرى الكاتبان أن العولمة الاقتصادية قد تنعكس إلى الوراء كما حدث في السابق، إلا أن تراجع القيادة الأمريكية في قضايا تتجاوز الحدود الوطنية مثل التغير المناخي والأوبئة يعني أن أمريكا تطلق النار على قدمها.

ويشدد الكاتبان على أن ترامب لم يدرك مدى ارتباط القوة الأمريكية العميق بالترابط المتبادل، وأن التركيز على الرسوم الجمركية والعقوبات سيقوّض النظام الدولي بقيادة واشنطن. ورغم وجاهة هذه الانتقادات جزئياً، فإن ما تشترك فيه مثل هذه الأطروحات المدافعة عن النظام الليبرالي الرأسمالي هو أنها تتجاهل المشكلات البنيوية العميقة للنظام العالمي، ولا تقدم رؤية بنّاءة لمعالجة مأزق هذا النظام.


قد لا يمكن الاعتراض على تأكيد الكاتبين بأن الترابط المتبادل العالمي بات بلا عودة، لكن ينبغي الاعتراف بأن هذا النظام «المعقّد» الجديد أنتج مشكلات شديدة التعقيد أيضاً. صحيح أن ترامب تعامل مع المسألة بفأس بدلاً من مشرط، لكن التطورات التكنولوجية المذهلة بفضل الذكاء الاصطناعي جعلت النظام الرأسمالي العالمي يُجدّد نفسه باستمرار ويزيد من صعوبة حل أزماته البنيوية.

إن حقيقة أن أمريكا حافظت طويلاً على هيمنتها على هذا النظام وقامت بدور حامي «النظام الدولي القائم على القواعد» لا تعني أن هذا النظام كان خالياً من الظلم وعدم المساواة وخرق القانون. إن القول بأن القوة الأمريكية تستند في جوهرها إلى القوة الناعمة إلى جانب القوة العسكرية والاقتصادية صحيح، لكنه كان سيكون أكثر إقناعاً لو أشار الكاتبان إلى أن هذه القوة نفسها كانت بين أسباب أزمة النظام العالمي.


إن النظرة الليبرالية التي تعتبر أن القوة الأمريكية بحد ذاتها حالة إيجابية، تفضّل اعتبار أزمة النظام مجرد «حادث عرضي». وهكذا يصبح انتقاد سياسات ترامب باعتبارها تهديداً لهذا النظام حُجة لصالح قبول سياسات شعبوية «أقل راديكالية».

صحيح أن القوة الأمريكية استفادت من التجارة القائمة على الترابط المتبادل، لكن دور القوة الناعمة في إقامة هذا النظام واستمراره ليس في مستوى القوة العسكرية والاقتصادية. إن إعلان نهاية «القرن الأمريكي» في المقال يفترض أن تجربة «باكس أمريكانا» (السلام الأمريكي) كانت في جوهرها إيجابية، متجاهلاً حقيقة تعمّق الفوارق العالمية واستمرار النزاعات الإقليمية بلا نهاية.


#«باكس أمريكانا»
#القرن الأمريكي
#أمريكا
#نهاية القرن الأمريكي الطويل