"تتساقط القنابل فوق رؤوسهم، ومع ذلك لا زلن يُنجبن"، "إنجاب الأطفال في مثل هذه الظروف أنانية"، "إن كان الكبار يتحملون فما ذنب هؤلاء الأطفال؟"، "هل يمكن لإنسان أن يكون بهذا القدر من اللامبالاة؟" وهكذا تتوالى التعليقات في سياق الحديث عن استمرار نساء غزة بالإنجاب رغم هجمات إسرائيل التي بلغت حدّ الإبادة الجماعية. فمع كلّ خبر عن ولادة جديدة في غزة، تتجدد هذه النقاشات، ليس فقط في منطقتنا، بل على منصات التواصل العالمية أيضًا، حيث يتداولها الكثيرون وسط جدال محتدم.
تؤكد الدراسات الصادرة عن المنظمات الدولية أن معدل المواليد في غزة يبلغ حوالي 130 طفلًا يوميا، رغم المخاطر الجسيمة الناجمة عن القصف اليومي، ونقص المرافق الصحية، وندرة الأطباء والممرضين، ومحدودية الرعاية ما بعد الولادة، ومشاكل سوء التغذية. ومع ذلك يستمر النمو الديموغرافي الفلسطيني في القطاع المحاصر.
ورغم ما يراه المرء من صعوبات جلية، هناك سببان يدفعان نساء غزة إلى مواصلة الإنجاب:
أولاً: الإنجاب ظاهرة فطرية تعكس تمسك الإنسان بالأمل في المستقبل. فرغم كل المعاناة من حروب، ونزوح ولجوء وفقر وغيرها، يحافظ البشر بطبيعتهم على غريزة التكاثر وزيادة النسل. إن تفسير الإنجاب تحت القصف بالجهل أو الأنانية هو تبسيط غير منطقي. بل على العكس، فإن الإنجاب يشكل من الناحية النفسية آلية للبقاء والحفاظ على الوجود. وهناك أبحاث ودراسات أكاديمية معمقة تناولت هذا الموضوع، يمكن للراغبين الاطلاع عليها.
ثانياً: في سياق الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، يشكل الإنجاب وزيادة النسل سلاحاً استراتيجياً للفلسطينيين. وقد أظهرت العديد من الدراسات أن نسبة السكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة (القدس، وغزة، والضفة الغربية) آخذة في الازدياد، بينما يشهد عدد السكان اليهود انخفاضا ملحوظاً. ويتوقع خبراء أن إسرائيل ستواجه بعد 30 أو 40 عاماً من الآن صعوبة في إدارة هذا الخلل الديموغرافي، وسيشكل التفوق العددي العربي أحد أكبر التحديات التي تقضّ مضجع إسرائيل.
باختصار، يُعدّ الإنجاب أحد طرق المقاومة التي يتبعها شعبٌ مُحتلٌّ ضد الاحتلال الغاشم. بل يمكن وصف هذا النوع من المقاومة بـ "حرب الإنجاب".
وتدرك إسرائيل هذه الحقيقة جيداً، ولذلك تستهدف بشكل ممنهج المرافق الصحية ومستشفيات الولادة والعيادات الطبية ضمن سياستها الإباديّة ضد الفلسطينيين في غزة. ولنفس السبب يُستهدف الأطباء والممرضات والقابلات بعمليات دقيقة بقصف جوي مُتعمّد، بينما يُعتقل الأطباء العاملون في الميدان ويُختطفون ويُسجنون. وبما أنهم يعتبرون الرضع والأطفال الفلسطينيين "إرهابيين مستقبليين"، فإن تدمير النظام الصحي في غزة من جميع الجوانب هو نتيجة سياسة ممنهجة، فلا يوجد مستشفى أو عيادة تتعرض للقصف عشوائيًا.
وتؤدي الأزمة الإنسانية في غزة، الناتجة عن هجمات إسرائيل وحصارها، إلى ولادة أطفال بعيوب جسدية مختلفة. وتُفاقم المواد الكيميائية السامة التي تستخدمها إسرائيل من حالات الإعاقة والتشوهات بعد الولادة. كما أنّ سوء التغذية وعدم كفاية حليب الأم يؤديان إلى قِصَر في قامات المواليد مقارنة بالمعدلات الطبيعية. فضلًا عن أن تعرّض النساء الحوامل لغازات ومواد ضارة مختلفة يؤدي إلى زيادة حالات الولادة المبكرة ومضاعفات ما بعد الولادة. أضف إلى ذلك أن التوتر الناتج عن القصف المتواصل يرفع من معدلات الإجهاض بشكل كبير.
ولكن رغم كل هذه هذه المعاناة والصورة القاتمة، فإن "حرب الإنجاب" لا تزال مستمرة. فكما يموت كثيرون، يولد أيضًا كثيرون. ويخوض الفلسطينيون بدافع فطري وغريزي، معركة وجودية لتعويض من فقدوهم. ومن صلابة هذا الشعب وإصراره يتجلّى أحد الأجوبة الجوهرية عن سؤال بالغ الأهمية: لماذا لن تستطيع إسرائيل الانتصار في هذه الحرب؟
في الواقع، إنها حكاية يعرفها اليهود جيدًا أو ينبغي لهم أن يعرفوها: فقد ارتكب فرعون أيضًا نفس الإبادة الجماعية بحق بني إسرائيل، وركز على قتل جميع المواليد الذكور، لكنه هُزم في النهاية.
واليوم، يبدو أن هذا القانون الكوني التاريخي، قد انقلب على بني إسرائيل.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة