يتكوّن حول بحر قزوين (روسيا - أذربيجان - إيران) وجنوب آسيا (الهند - باكستان - إيران) دوّامتان جديدتان وخطيرتان للغاية.
هاتان المنطقتان تعدّان من العقد الجغرافية الأكثر حساسية في العالم، فهما من المحاور الأساسية للقوة والثروة والصراعات والطموحات. وإذا ما انفرجت العقد هنا أو تفكّكت، فإن إعادة ترتيب محور الأرض قد يستغرق عقودًا طويلة بل وقد يصبح مستحيلاً.
إنّ الصراعات في هذين الإقليمين لن تبقى بأي حال من الأحوال محصورة ضمن حدودهما. من جنوب آسيا إلى آسيا الوسطى، ومن بحر قزوين إلى المحيط الهندي، ومن شمال القوقاز إلى جنوب شرق الأناضول، ستتحرّك المناطق بأسرها.
إنّ هذين الاضطرابين اللذين برزا بهذه الصورة لا يقتصران على التوتّرات والصراعات الداخلية الضيّقة، بل يمثّلان أوضح الأمثلة على الزلازل الجيوسياسية التي تهمّ العالم بأسره وتشكل جزءًا من رسم خريطة القوى العالمية الجديدة.
إنّ الخط الممتدّ من روسيا إلى بحر قزوين وصولًا إلى الخليج العربي يضمّ ضمنه القوقاز، الذي ظلّ عبر التاريخ من أكثر المناطق تعقيدًا واضطرابًا. وهذا وحده كافٍ لإظهار مدى خطورة الموقف.
إنّ تحرّك شمال القوقاز يعني بالنسبة لروسيا حروبًا لا نهاية لها، كما أنّه سيتسبّب لدول المنطقة بسلسلة من الأزمات المتداخلة يصعب حلّها وتحقيق الاستقرار فيها. والسؤال المطروح: هل نحن مستعدّون لتحمّل ذلك؟ وهل تمّ حساب توقيت ذلك بدقّة؟
أولئك الذين يحرّكون خطوط الصدع الجيوسياسية في المنطقة قد يجدون أنفسهم ضحايا للفوضى التي انتظروها ليكونوا أسيادها. فإذا ما تكرّر الصراع الكبير الذي دار في مطلع القرن العشرين حول نفط باكو، وإذا ما فُتحت تلك الأبواب مرّة أخرى، فقد يكون الثمن باهظًا إلى حدّ تمزّق الدول وصعوبة تضميد الجراح.
لقد بدأت الأزمة مع إقدام أجهزة الأمن الروسية على اعتقال مواطنين أذربيجانيين ومقتل شخصين آخرين. وأخذت الأزمة تتفاقم، إذ ردّت أذربيجان باعتقال عناصر من جهاز الاستخبارات الروسي وعاملين في وكالة سبوتنيك. كما قرّرت إغلاق المدارس الروسية داخل البلاد وإلغاء اللغة الروسية من المناهج الوطنية. ويواصل البلدان حملات الاعتقال المتبادلة، ولا يمكن لأحد الآن توقّع إلى أين ستصل الأمور.
لا شكّ أنّ هذه التطوّرات ليست مؤشرًا كافيًا على حجم الدوّامة المشار إليها أعلاه حتى الآن. لكن من المحتمل أن تكون هذه التطوّرات محاولة لإدارة نفسية الرأي العام بينما يُحضَّر لأزمة أكبر خلف الكواليس في إطار أزمة روسيا - أذربيجان. وربما يكون هذا هو المقصود فعلاً.
من اللافت أنّ الاعتقالات بدأت مباشرة بعد الحرب بين إسرائيل وإيران. ولعلّ هناك أسبابًا أخرى، لكن هذه الصورة تتشكّل على هذا النحو. والأكثر إثارةً أنّ كل ذلك يجري بالتزامن مع التوصّل إلى اتفاقات نهائية حول ممرّ زنكيزور بين تركيا وأذربيجان وأرمينيا، وهذا أمر يبعث على التفكير.
إنّ جميع السيناريوهات على خط روسيا - أذربيجان - إيران تتمحور حول إيران. وقد أقدمت إسرائيل على الخطوة الأولى نحو تفتيت هذا البلد، وتلقّت ردًّا قاسيًا خلال حرب استمرّت اثني عشر يومًا، وأُعلن وقف إطلاق النار، لكن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحدّ. بل سيُعاد فتحه وسيستمرّ وسيُستدرج لمزيد من التصعيد.
إنّ المخطط البعيد المدى القائم على تفكيك إيران إلى مكوّنات عرقية من الأتراك والأكراد والعرب والبلوش قد يبدو مفيدًا للوهلة الأولى لبعض الدول. ولكن إذا ما تحقّق ذلك، فسيؤدّي إلى فتح أبواب تفتيت دول أخرى أيضًا. على سبيل المثال، ستواجه باكستان أزمة حادّة في بلوشستان ، وقد تأخذ القضية الكردية في تركيا بُعدًا جديدًا، وقد تواجه روسيا انفجارًا كبيرًا في شمال القوقاز.
لكن إذا ما نُقلت الأزمة من شمال القوقاز إلى جنوب القوقاز من قبل روسيا، فقد تجد تركيا نفسها في مواجهة مفاجئة وغير متوقّعة وتُجرّ إلى صراع حادّ مع روسيا. وفي خضمّ كلّ هذا، فإنّ الأطراف الوحيدة التي لن تتضرّر هي إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا.
ولا نعلم ما الذي سيُظهره التاريخ، ولكن فتح جبهة على خط القوقاز - إيران قد يكون بمثابة إلقاء المنطقة بأسرها في أتون نيران خدمةً لأجندات الآخرين. إنّ هذا السيناريو، الذي سيُضعف روسيا وتركيا ويمزّق إيران، ليس بأي حالٍ من الأحوال مشروعًا من صنعنا.
لقد ظهرت الدوّامة الثانية في محور الهند - باكستان - إيران. فقد شنّت الهند هجومًا على باكستان بذريعة هجوم إرهابي وقع في كشمير، وردّت باكستان بقوة غير متوقّعة وأسقطت طائرات حربية هندية، فتلقّت حكومة نيودلهي ضربة كبيرة لصورتها، وانتهى الأمر بوقف إطلاق نار.
لكن ذلك، شأنه شأن الحرب الإسرائيلية - الإيرانية، قد “توقّفت مؤقّتًا” ولم تنتهِ بعد ولن تنتهي. فقد كانت إسرائيل هي التي حرّضت الهند على شنّ هذا الهجوم. وستواصل إسرائيل إقناع الهند بشنّ هجمات جديدة. ولْنلاحظ أنّ هجوم إسرائيل على إيران وقع بعد فشل هجوم الهند على باكستان.
إنّ الصراع الهندي - الباكستاني يتمحور أيضًا حول إيران. فإذا ما جرى تفتيت إيران، فإنّ باكستان ستُحاصر من إيران والهند معًا وستُقلّص. عندها ستشكّل قضية بلوشستان عبئًا ثقيلًا على باكستان.
لقد تجلّت آخر مظاهر التباين في جنوب آسيا عبر تكتّل بريكس. فقد أعلنت الهند أنّها لن تنضمّ إلى مشروع العملة المشتركة الخاصّ ببريكس. كما جرى استبعاد الهند من الجلسة الخاصّة التي جمعت الصين وروسيا وإيران وباكستان.
لكن كيف يمكن لمثل هذا السيناريو - الذي لم يعد مجرّد سيناريو بل صار واقعًا - على طول الحزام الممتدّ من الهند إلى إيران وصولًا إلى الحدود التركية أن يُحدث هذا القدر من الانكسار في موازين القوى؟ وكيف يمكن أن تصل إسرائيل إلى حدود باكستان، والهند إلى حدود تركيا؟ وهل يمكن السماح بذلك أصلًا؟
ينبغي التفكير في كلّ ذلك بندًا بندًا، خطوةً خطوةً، دولةً دولةً. لقد دخلنا في مرحلة قد تفتح فيها أصغر التفاصيل الأبواب لأكبر السيناريوهات، في ظلّ فترة تتّسم بالغموض.
إنّ إسرائيل تستيقظ في ليلةٍ ما لتهاجم عاصمة بلدٍ ما، ويُعدّ ذلك أمرًا طبيعيًا. وغدًا قد يتكرّر الأمر نفسه في عواصم أخرى، وسيُعدّ أمرًا طبيعيًا أيضًا. إنّ التهديد المميت الحقيقي هو هنا.
هل تمتلك الرقعة الجغرافية الواسعة في الشرق الأوسط، التي تعاني أصلًا من صدمات متتالية تتمحور حول إسرائيل، القدرة على مواجهة هاتين الدوّامتين الجديدتين؟ إذا لم ننتبه لما يحدث في الأوقات الهادئة، فلن يكون لدينا ما يمكن فعله عندما تهبّ العواصف. حينها لن يبقى أمامنا أي خيار سوى الاستسلام للّعبة التي رسمها الآخرون.
لذلك علينا أن نعود ونركّز على خط روسيا - أذربيجان - إيران، وخط الهند - باكستان - إيران. ففي الوقت الذي ننشغل فيه بمواجهة عدوان إسرائيل وما يحدث في غزة، يمكن لهذين الخطّين الجديدين من الجبهات أن يشتتا أذهاننا إلى درجة غير عادية. حينها قد نقف عاجزين ونُسلِم أنفسنا للتيّار.
إنّ على تركيا أن تضع خطّة لعبٍ شاملة لجميع هذه السيناريوهات دون أي تأخير. ففي القرن الحادي والعشرين ستكون الدول “التي تفقد” هي تلك التي تُفاجَأ دون استعداد.
منذ القرن التاسع عشر كانت تركيا دائمًا في موقع الخاسر، لكنها أصبحت لأوّل مرّة قوة رابحة، ويجب أن يستمرّ ذلك مهما كلّف الأمر. لأنّ “الحروب التي تبدأ قبل أوانها” قد تضع حدًّا لهذا التاريخ الجديد.
ينبغي تجميد أزمة روسيا - أذربيجان. كما يجب إزالة حالة انعدام الثقة بين أذربيجان وإيران. نحن لا نتجاهل طموحات روسيا تجاه أذربيجان، لكن من الواضح أنّ أذربيجان في هذه المرحلة بحاجة ماسّة إلى توجيه كلّ طاقتها نحو تعزيز نفسها، والابتعاد عن أيّ خطوات قد تستنزف هذه الطاقة.
يجب ألّا تُترك باكستان وحيدةً أبدًا. بل يجب العمل على تعزيز قدرة باكستان ضدّ الهند وإسرائيل إلى أقصى حدّ. كذلك ينبغي إزالة التوتّرات بين باكستان وأفغانستان، لأنّ باكستان هي العمود الفقري لجنوب آسيا. فهي، إلى جانب أفغانستان، تُعدّ بمثابة بوّابة آسيا الوسطى. هناك من يحاول الآن اختراق بابَي آسيا الوسطى: القوقاز (البوّابة الغربية) وباكستان/أفغانستان (البوّابة الجنوبية). وهم يحاولون إغلاق هاتين البوّابتين بالحروب.
ينبغي تشكيل خطّ أمنيّ متّصل من تركيا وصولًا إلى حدود الهند، يمنحنا بعض الاطمئنان. وهذا يفرض على الدول أن تضع خلافاتها الشخصية من غضب ومخاوف جانبًا. لقد دخلنا في مرحلة لا يمكن لأيّ دولة أن تقاوم فيها وحدها.
لم يعد هناك مفهوم الدولة الواحدة فقط. بل هناك “جغرافيا مشتركة” ولا بديل غير ذلك. فإذا تحرّكت الدول وفق هذا الوعي، فإنّها لن تتمكّن فقط من منع الحروب والدمار والانقسامات، بل قد تبني حزامًا عظيمًا في هذه الرقعة الجغرافية التي تُعدّ محور الأرض. وهذا يعني نشوء قوة جديدة قادرة على تغيير خريطة العالم ومركز ثقله.
إذا اكتفينا بالدفاع فسوف ننهار ففي هذا القرن كلّ دولة تكتفي بالدفاع ستستنزف نفسها. علينا أن نستثمر في القوة، وأن نحسن استغلال التفاصيل الدقيقة وننفّذ تدخّلات محسوبة لندفع الرياح إلى صالحنا، لنصبح “الحزام العظيم”.
يجب أن نكون كذلك، وسنكون. لأنّ هذه الفرصة لم تتكرّر منذ خمسة قرون.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة