التناقض الجوهري في النظام الرأسمالي لا يقتصر على جانب التراكم، بل يمتد ليظهر بوضوح في آليات التداول، من حيث علاقته بالعمل ورأس المال. فلكي يتمكّن رأس المال من النمو، يجب أن يبقى في حركة دائمة دون عوائق. وكلّما دخل مكانًا جديدًا، يسعى إلى تعظيم فائض القيمة الذي يستخرجه. ومن هنا، يقدّم الاستعمار والإمبريالية نماذج واضحة لكيفية تحقق ذلك.
ومن المؤكد أن تداول رأس المال، على غرار عملية تراكمه، يقوم على مبدأ عدم التوازن: يأخذ أكثر مما يعطي. ومن منظور العمل، فإن ما يُمارس على العمال في مراكز تراكم رأس المال من ضغوط واستغلال، يُطبَّق بشكل أوسع وأكثر إذلالًا في كل منطقة يدخلها رأس المال، ويأخذ بعدًا ثقافيًا إضافيًا. فـ"الاستشراق" يشكّل الخزان الثقافي لهذا النوع من الإذلال.
من الضروري الانتباه إلى بعض الوقائع التي يمكن أن تقلب هذه البنية. في بداية تأسيس الولايات المتحدة، واجه الرأسمال الزراعي أزمة نقص في اليد العاملة. فقد أُبيد السكان الأصليون في أمريكا الشمالية بشكل واسع، وكانت هناك حاجة إلى عدد كبير من العمال لتشغيل المزارع الضخمة. وهكذا، وقع الاختيار على إفريقيا، وتم استعباد ملايين الأشخاص السود ونقلهم إلى القارة.
يمثل هذا المشهد حالة استثنائية تُظهر أن عملية استخراج الفائض من العالم بدأت تشمل الإنسان أيضًا. وخاصة في ولايات الجنوب، خضع هؤلاء الأشخاص، الذين لم يكن لهم أي حقوق، لمعاملات فظيعة. أما في الشمال، فكان التحول نحو الرأسمالية الصناعية قد بدأ. وفي الحقيقة، كانت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب صراعًا بين الرأسمالية الزراعية والصناعية؛ أو بمعنى آخر، صراعًا بين العبودية المجانية والعبودية المأجورة. وفي النهاية، انتصر الشمال، أي أمريكا الصناعية، وتحسنت أوضاع السود إلى حدٍّ ما. ومع ذلك، استمر التأثير القانوني والثقافي للفصل بين السود والبيض لفترة طويلة. ويدل خطاب مارتن لوثر كينغ في الستينيات، والذي جمع مئات الآلاف مطالبًا بالمساواة في المواطنة، على أن الأوضاع لم تتحسن بعد قرن من نهاية الحرب الأهلية (1865). وحتى اليوم، لا تزال آثار الفصل بين السود والبيض قائمة في الحياة اليومية، وتظهر أحيانًا على شكل انفجارات مفاجئة. نعرف جميعًا حالات السود الذين قُتلوا دون مبرر بسبب عنف الشرطة المفرط. الانتفاضة التي اندلعت في لوس أنجلوس عام 1992، وحركة "حياة السود مهمة" التي انتشرت في أنحاء القارة بعد مقتل جورج فلويد عام 2020، أمثلة واضحة على ذلك.
لكن التحوّلات الأشد وقعًا جاءت بعد الحرب العالمية الثانية. فقد شهدت الدول الرأسمالية المركزية والطبقات القومية فيها توسعًا كبيرا للطبقة المتوسطة. كان ذلك تحوّلًا جذريًا في توزيع التراكم. تم إدخال سياسة اقتصادية كينزية، وبدأ تحويل الطبقة العاملة إلى طبقة وسطى من خلال فتح قنوات إعادة التوزيع. سعت الرأسمالية من خلال هذه الخطة إلى تحقيق عدة أهداف دفعة واحدة: أولًا، تجاوز مشكلة نقص الطلب، وهي إحدى أزماتها المزمنة. ثانيًا، تحسين إنتاجية العمل من خلال تطوير التعليم وزيادة جودة القوى العاملة. وأخيرًا، عبر تحويل الطبقة العاملة إلى طبقة وسطى، كانت تهدف إلى منع حروب الطبقات التي أنهكتها في القرن التاسع عشر.
لكن هذا التحول أضر بشكل كبير بتقسيم العمل الذي تعتمد عليه الرأسمالية. فقد خلق نشوء الطبقة الوسطى فجوة في سوق العمل في المجتمعات المركزية. العمال الغربيون الذين اعتادوا على معايير الطبقة الوسطى بدأوا بالانسحاب من القطاعات المجهدة والقذرة التي تستهلكهم. ولردم هذه الفجوة، بدأ العمال القادمون من العالم شبه المركزي والطرفي بسدّ هذا الفراغ.
من ناحية أخرى، جعلت الطبقة المتوسطة تكلفة العمالة أعلى، في حين كان "العمل المستورد" أرخص بكثير بالنسبة لرأس المال. وبالتالي، بدأ يُسمح بتداول العمل على المستوى العالمي. وظهرت أحياء ومناطق بائسة في الغرب، تعيش فيها الطبقات القادمة من الخارج في ظروف مزرية. لكن المسألة خرجت سريعًا عن السيطرة، وتحولت إلى موجة كبيرة، بل إلى ما يشبه الغزو. والأسوأ من ذلك أن هؤلاء القادمين بدأوا، بعد جيل أو جيلين، بتحسين أوضاعهم، والتحول إلى رواد أعمال، وفتح مشاريعهم الخاصة.
ومع تحوّل المجتمعات الصناعية إلى مجتمعات خدماتية، لم تعد المسألة اقتصادية فقط، بل اتخذت طابعًا ثقافيًا أيضًا، نتيجة التعارض بين عادات وتقاليد القادمين والمقيمين. أصبحت الطبقات المتوسطة الغربية، وخاصة الطبقات الوسطى الدنيا، غير مرتاحة من هذا الوضع. أما الطبقات الدنيا، فقد بدأت تنهار أمام هذا التنافس، وتواجه خطر البطالة. وبالنتيجة، بدأ يتشكل تيار ثقافي/أيديولوجي مقاوم من هذه الطبقات الدنيا والدنيا الوسطى.
وقد عمّقت أزمات الرأسمالية المتكررة هذا التراكم، ورفعته إلى الساحة السياسية. واليوم، وصلت الحركات والأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة والمعادية للأجانب في أوروبا إلى حدود المنافسة على الحكم. والعملية نفسها كانت خلف صعود ترامب.
الرأسمالية العالمية، من خلال تقنياتها الجديدة، رفعت من سرعة تداول رأس المال ووصوله. لم تعد الحدود أو البيروقراطيات قادرة على إبطاء حركة رأس المال التي تحولت إلى ما يشبه الغاز في شكله الحديث. لكن المسألة الكبرى كانت في كيفية تنظيم تداول العمل. واليوم، تعيد الثقافة السياسية الغربية تحديد مواقفها بناءً على هذا السؤال. والفرق الجوهري بين اليمين واليسار ينبع من هذه النقطة.
الانقسام السياسي السائد في الغرب لم يعد بين يمين ويسار بالمفهوم التقليدي، بل بين من يريدون تلطيف هذه الأزمة، ومن يسعون إلى القضاء عليها. فمنذ التسعينيات، أصبح اليسار التعددي المؤيد للتعدد الثقافي ممثلًا للتيار الأول، بينما يمثل اليمين القومي المعادي للأجانب التيار الثاني.
من الضروري الانتباه إلى التفاوت في القوة بين هذين الاتجاهين. فالأول يضعف بسرعة بسبب هشاشته، بينما الثاني يزداد صلابة وقوة. ومن المؤكد أن هذا الصلب سيتبخر في النهاية، لكن حتى يحين ذلك، سيسحق كل ما هو لين وضعيف في طريقه.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة