أعتقد أن سياسات المحافظين الجدد التي تتمحور حول توسعية إسرائيل يُعاد إنتاجها في الأساس وفقًا لمصالح النخبة المالية العالمية ورأس المال المالي العالمي الذي يُشكّل ما يُسمّى بـ«الدولة العميقة» في بريطانيا العميقة، والتي بدورها تؤثر على كيفية صياغة السياسات الأمريكية. يمكننا أن نرى أن لهذا المشروع أبعادًا تبدأ من بحر البلطيق وتشمل أوروبا الشرقية ثم تمتد إلى شرق المتوسط وصولًا إلى المحيط الهندي.
إن التحالف بين الهند وإسرائيل واليونان يُشير إلى هذه النقطة المحورية. وبصرف النظر عن اختلاف الدوافع، يتم استبعاد تركيا وروسيا والصين من المعادلة بشكل كامل. المسألة الجوهرية هنا هي فهم كيف تتكيف السياسات الأمريكية مع هذا المخطط.
في الولايات المتحدة، هناك أسباب كثيرة للاعتقاد بأن الجمهوريين تبنّوا هذا المخطط في حين حافظ الديمقراطيون – على الأقل في البداية – على مسافة منه. لنذكّر: خلال ولايته الأولى، أبدى ترامب تقاربًا كبيرًا مع إسرائيل؛ فقد اعترف بالقدس عاصمة لها، وأضفى شرعية على احتلال إسرائيل غير القانوني لمرتفعات الجولان.
ولم يكتفِ بذلك، بل مزّق الاتفاق النووي مع إيران، كما أُبرمت «اتفاقيات أبراهام» التي طبّعت العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج خلال فترة حكمه. في المقابل، عندما وصل بايدن إلى الحكم، بدا أنه يحاول أن يخلق مسافة بينه وبين إسرائيل؛ إذ هاجم السعوديين وظهرت حتى إمكانية محاكمة ولي العهد السعودي بسبب قضية خاشقجي. ومن هنا ظنّ الكثيرون أن الديمقراطيين يُربكون مصالح إسرائيل، وأن ترامب والجمهوريين هم الحليف الوحيد لها في أمريكا.
ثم تحرك الديمقراطيون – تحت ضغط بريطانيا العميقة – فأعادوا إحياء حلف الناتو لتطويق روسيا وأثاروا الحرب بتحريض أوكرانيا. ولم تتأخر أوروبا في الانجراف في هذا التيار.
لكن هجوم السابع من أكتوبر وما تبعه من غزو غزة والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل مثّل صدمة كاملة للديمقراطيين؛ إذ إن تركيزهم كان منصبًا بالكامل على الحرب الروسية الأوكرانية وأهملوا الشرق الأوسط. استغلّت الصين هذا الفراغ، فعقدت اتفاقيات طويلة الأمد ومتعددة الأبعاد مع إيران، بل تحرّكت دبلوماسيًا للتقريب بين إيران ودول الخليج – وهو تحرك كان بمثابة اختراق لاتفاقيات أبراهام.
وقد حققت بكين مكاسب كبيرة بهذا التحرك. هنا بدأت بريطانيا العميقة ورأس المال المالي العالمي يشعران بقلق بالغ. وأرى أن هجوم 7 أكتوبر هو نتيجة مباشرة لهذا التحول.
على الفور، تم تفعيل الخطة: دُعمَت إسرائيل وأُتيح لها المجال واسعًا. جرى التوجه لتصفية العناصر الداعمة لإيران والهلال الشيعي. وتعززت العلاقات بين الهند وإسرائيل، وكذلك إسرائيل مع قبرص الجنوبية واليونان.
لقد أصبح القرار واضحًا: سيتم أولًا طرد إيران من الشرق الأوسط، ثم إسقاط نظام الملالي وإزالة النفوذ المتزايد للصين وروسيا من هذه الجغرافيا. الضربات الإسرائيلية لحزب الله في لبنان، ثم التحركات لإسقاط الأسد، تكشف مدى عمق هذا المخطط.
وسط هذه التطورات حدث ما لم يكن في الحسبان: فاز ترامب بالانتخابات وعاد إلى الحكم لولاية ثانية. وظنّ كثيرون أن هذا التغيير في الإدارة سيُسهل تنفيذ الخطة أكثر. لكن ما يُغفل هنا هو الفارق بين ولاية ترامب الأولى والثانية.
نحن نعلم أن انخراط ترامب الأيديولوجي «التيوسياسي» قائم على الإنجيلية. الرابط الذي كان يصل ترامب بالصهيونية هو هذا التوجه الإنجيلي.
في ولايته الأولى، كان يحيط به عدد كبير من الشخصيات الإنجيلية. لقد استفاد ترامب كثيرًا من الرموز الثقافية والأيديولوجية للإنجيلية. غير أنه بمرور الوقت تدهورت علاقته بهذه الدائرة.
تذكّروا أن ترامب في ولايته الأولى كان إلى جانبه أسماء بارزة من الإنجيليين مثل ستيف بانون، مايك بنس، ومايك بومبيو. لكن في ولايته الثانية لم يظهر أي منهم في الحكومة أو في مواقع حساسة.
لقد ابتعد ترامب عن بعضهم، واصطدم بآخرين وأبعدهم. لذا، يجب تقييم المرحلتين الأولى والثانية لترامب بشكل منفصل. وأرى أن ما حدث هو شرخ بين تيار الـ«المحافظية القديمة» والإنجيلية. ولا ينبغي نسيان أن الفكر الذي يتبعه تيار المحافظية القديمة يحمل في عمقه نزعة قوية معادية للسامية.
برأيي، في ولايته الثانية أصبح ترامب أكثر قربًا من المحافظية القديمة مقارنة بالإنجيلية. وتبرز في فريقه الجديد شخصيات مثل «فانس» الكاثوليكي المتشدد، وماسك الذي لا يُطيق الإنجيليين ويُخفي مشاعر معادية للسامية.
ومن اللافت أن أحد أسباب الخلاف بين ماسك وترامب كان تقييم ماسك لترامب بأنه لم يتخلّ تمامًا عن ارتباطه بالإنجيلية. وعندما حصلت القطيعة بينهما، دعا ستيف بانون إلى ترحيل ماسك، مما يوضح أن الكراهية متبادلة وأن الإنجيليين لا يقلّون عداءً للمحافظية القديمة. حاليًا، يشنّ ماسك عبر منصة «إكس» حملة واسعة ضد الصهيونية.
إن ترامب في ولايته الثانية يقف أقرب إلى النزعات اليمينية الجديدة، ذات التوجه الانعزالي والمعادية للسامية في عمق الثقافة الأمريكية البيضاء السائدة.
لكنه في نفس الوقت لم ينفصل تمامًا عن الإنجيلية، مما يجعله في موقف معلق بين الجانبين. فهو يريد إنهاء حرب روسيا وأوكرانيا، وفي الوقت نفسه يسعى للحد من تغوّل إسرائيل في الشرق الأوسط. حقًا إنها مهمة صعبة للغاية. الصهاينة الآن يستخدمون ملف «إبستين» للضغط عليه ودفعه لمهاجمة إيران. والسؤال: كيف سيتصرف؟ هل سيرضخ لإملاءات رأس المال المالي العالمي؟ أم سيصمد ويُبقي أمريكا خارج مغامرة إيران؟
إن الحرب بين إسرائيل وإيران تشكّل لحظة مأساوية بلا عودة. نعم، إنه الصدام الأخير. إذا لم تتدخل أمريكا واستمرّت الحرب وتمكّنت إيران من الصمود والوقوف على قدميها، فسيكون ذلك بمثابة هزيمة لإسرائيل والشبكة العالمية الداعمة لها.
أما إذا انجرفت أمريكا إلى الحرب تحت ضغط اللوبي الإنجيلي الصهيوني، فإن الصين – ومن بعدها روسيا – ستنخرطان حتمًا في هذا الصراع، لأن خسارة إيران ستكون بداية النهاية بالنسبة لهما أيضًا. ولا ننسى: إذا سقطت إيران، فلن تكون باكستان وتركيا في مأمن من أيام عصيبة قادمة.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة