حول الهيمنة الأمريكية

11:232/06/2025, الإثنين
تحديث: 30/06/2025, الإثنين
سليمان سيفي أوغون

الهيمنة مفهوم ذو بُعدين. يمكننا اعتبارها وحدة بين فرض القوّة وكسب الرضا. إذ إنّ كل تكوين هيمني يقتضي، شاء أم أبى، بُعدًا عسكريًا قوامه القوّة، وبُعدًا ثقافيًا يستند إلى وجود هذه القوّة. ولا شكّ أنّ العنصر الأساس الذي يُغذّي كليهما هو التفوّق الاقتصادي وغنى الموارد، ولا ينبغي أن نغفل عن ذلك. الهيمنة الأمريكية التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية تشير تمامًا إلى هذا المعنى. فالولايات المتحدة الأمريكية، خلافًا لأوروبا التي انهارت ودمّرها الخراب في الحرب العالمية الثانية، برزت كقوّة فتية جديدة. باستثناء

الهيمنة مفهوم ذو بُعدين. يمكننا اعتبارها وحدة بين فرض القوّة وكسب الرضا. إذ إنّ كل تكوين هيمني يقتضي، شاء أم أبى، بُعدًا عسكريًا قوامه القوّة، وبُعدًا ثقافيًا يستند إلى وجود هذه القوّة. ولا شكّ أنّ العنصر الأساس الذي يُغذّي كليهما هو التفوّق الاقتصادي وغنى الموارد، ولا ينبغي أن نغفل عن ذلك.

الهيمنة الأمريكية التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية تشير تمامًا إلى هذا المعنى. فالولايات المتحدة الأمريكية، خلافًا لأوروبا التي انهارت ودمّرها الخراب في الحرب العالمية الثانية، برزت كقوّة فتية جديدة. باستثناء الهجوم المشبوه على ميناء بيرل هاربر، لم يُصبها أيّ أذى يُذكر.

خاضت حربها ضد اليابانيين بعيدًا جدًا عن قارتها، في أعماق المحيط الهادئ. أمّا إنزال نورماندي فقد نُفّذ في مرحلة كانت فيها جيوش هتلر قد تفتّتت. تقدّمت الجيوش الأمريكية في القارة الأوروبية بسهولة تُشبه إخراج شعرة من عجين.


إنّ الإحصاءات التي تُظهر أعداد القتلى من الجنود والمدنيين، حين تُقارن مقارنةً نسبية، توضّح هذه الحقيقة بشكلٍ جلي. فقد تجاوزت خسائر الاتحاد السوفييتي من البشر 20 مليونًا، وخسائر ألمانيا نحو 7.5 مليون، وخسائر اليابان أكثر من 2.5 مليون، والصين 20 مليونًا، في حين تُقدّر خسائر الولايات المتحدة بـ 418 ألفًا فقط.


وعند مقارنة قتلى العسكريين والمدنيين يتّضح المشهد بأرقام أكثر صدمة. فعلى سبيل المثال، بلغت هذه النسبة في الاتحاد السوفييتي 10 ملايين عسكري مقابل 12 مليون مدني؛ وفي هولندا 16 ألف عسكري مقابل 125 ألف مدني؛ أمّا في الولايات المتحدة فبلغت 417 ألف عسكري مقابل 1700 مدني فقط.

والخلاصة أنّ الولايات المتحدة التي لم تشهد على أرضها إلا قدرًا ضئيلاً من الدمار، وبقيت صناعتها واقفةً صامدة، وواصلت العمل بكفاءة عالية جدًا، استطاعت بأقلّ قدر من الخسائر أن تستحوذ على الهيمنة العالمية بوصفها أقوى وأعتى دولة في القرن العشرين.

أمّا بريطانيا، وهي القوة الهيمنية السابقة التي فقدت في الحرب نحو 450 ألفًا من أبنائها وتعرّضت مدنها لقصف ألماني دمّرها، فلم يتبقّ لها ما تستطيع فعله في مواجهة الولايات المتحدة. وجلّ ما استطاعت فعله هو التسلّل إلى الداخل الأمريكي عبر خبراتها الاستخبارية والتراكم التجريبي الذي تملكه، كي تكسب قدرًا من القدرة على توجيه أمريكا من الداخل بقدر ما تستطيع.


لقد فرضت الهيمنة الأمريكية العسكرية نفسها منذ عام 1945 وحتى بداية أزمتها في مطلع الألفية الثانية تقريبًا. أمّا الجناح الثقافي للهيمنة، فقد شغّلته الولايات المتحدة بكامل طاقته وحقّق نجاحات كبيرة جدًا. كان أكبر نجاح لها هو تفكيك البُنى الثقافية التي كرّستها أوروبا إبّان عصر التنوير وما بعده. فقد أصبحت الثقافة الأوروبية، بما بلغته من عمق وتعقيد في مجالات العلوم والفنون والفلسفة، معيارًا عالميًا يحمل ثقلاً كونيًا.

وهنا من الضروري التنبيه إلى مسألة الكونية هذه. إنّ الادّعاء القائل بأنّ الحضارة الغربية متماهية مع أوروبا كان يملأ عقول النُخب المحلية في المستعمرات والمناطق شبه المستعمَرة. لدرجة أنّ الأفكار والقيم الأوروبية المركزية كانت هي نفسها التي تُشكّل حتى طبيعة الحركات المناوئة لها. وباختصار، كانت «الحضارة الأوروبية» توفّر المراجع الفكرية التي لا يمكن الاستغناء عنها، سواء لمن تبنّاها أم لمن أراد مقاومتها من النُخب المحلية.


كانت الرموز الثقافية الأوروبية مركزية وصلبة وعصية على الاختراق، وهو ما جعل واجبات النُخب المحلية ثقيلة للغاية. إذ كان عليهم أولًا تعلّم الفلسفة والأدب الفرنسي أو الألماني المليئين بآلاف الكلمات والمفاهيم التي لا نظير لها في لغاتهم الأصلية.

وقد عجز كثير من المتنوّرين عن إتقان ذلك، ومن أتقنه انسلخ في الغالب إلى عالم آخر وأصبح غريبًا عن مجتمعه. أمّا من حاول الاعتراض على الفكر الأوروبي بدوافع محلية ودفاعية، فقد سقط في ظلمات العتمة والرجعية أو ظلّ عالقًا في محاولات تأليف هشة ومتناقضة.

غير أنّ الثقافة الأمريكية أزالت كل هذه الأثقال دفعة واحدة. من النادر أن تسمع في الأوساط الثقافية الأمريكية ادّعاءً بأنهم سيُمدّنون العالم. الأمريكيون يتبنّون الفكر العملي النفعي ذي الجذور البريطانية، ويُرسّخون منهجية «اعرف كيف» بدلاً من «اعرف ماذا». أمّا التعمّق، فكان بالنسبة لهم مضيعة للوقت والطاقة. إنّ قيم الطبقة الوسطى الأمريكية تشبه حبّة مهدّئة؛ تُخفّف وتُسيّل وتُسطّح كل شيء وتُريح الأذهان المرهقة من النزعة الأوروبية.

وهي تقدّم شفاءً ذهنيًا لكل عقل أرهقه التوجّه الأوروبي. ولأنهم مجتمعٌ متعدّد الأعراق والثقافات، لم يكونوا ينبذون أي ثقافة أجنبية، بل ينظرون إليها بتسامح كبير. وهنا يكمن الفرق الجوهري بين طبقات المجتمع الأمريكي الوسطى المرنة وبين تقاليد البرجوازية الأوروبية الجامدة والمعقّدة.

وأخيرًا، كانت الولايات المتحدة تحتفل بكل فرصة للنجاح مهما كان مصدرها، ولم تكن تفرض أي شرط أخلاقي مسبق على الأفعال. فقد كان أسلوبها يقوم على حرية الفعل بلا قيود أخلاقية مستمدّة من أية قاعدة قِيَميّة عليا. كانت الحرية تعني عندهم ببساطة فرديةً لا تُعيقها أي عوائق وتبحث دائمًا عن الفرص لتفوز بها.

لقد كان هذا بمثابة نظرية تطوّر اجتماعي شاملة حوّلت القيم العليا إلى أوهام وفتحت الباب لمغامرات بلا سقف. وكان الخطر هو الضمانة الوحيدة. فالخطر في هذه الثقافة قيمة ملحمية يشعر بها كل فرد: لا أحد يُجبره على المخاطرة، لكن إذا لم يُقدم عليها فسيفسد ويُهان، وإذا خاطر وربح فسيُحتفى به، أمّا إذا خسر فلا يحقّ له الشكوى.


لقد استثمرت الولايات المتحدة جميع أشكال الاقتصاد العام، وخاصة الاشتراكية الواقعية، لتدعيم هيمنتها الثقافية. كانت تحتقر أوروبا الغربية، التي ظلّت تحت سيطرتها والمعروفة باقتصاد نهر الراين الذي يجمع بين الاقتصاد العام والديمقراطية، وتحتفظ بها كقوّة احتياطية.

أمّا المعسكر الاشتراكي الذي كان يسعى إلى خلق «الإنسان السوفييتي» عبر اقتصاد بلا ديمقراطية، فقد استغلّته الولايات المتحدة لتُبرّر نزعتها التحررية. وكما ساعد المعسكر الاشتراكي الأداء العسكري الأمريكي على الاستمرار، أدّى الدور نفسه على المستوى الثقافي أيضًا.


لقد أثّرت هذه الثقافة في الشعوب العادية حول العالم وجذبتهم إليها من أعماقهم. واليوم، فقدت الولايات المتحدة قدرًا كبيرًا من تفوّقها الاقتصادي والتكنولوجي. أمّا عسكريًا، فهي ما تزال قوّة ضخمة، نعم، ولكن لم تعد مخيفة كما كانت من قبل.

فهي دولة خسرت كل حروبها تقريبًا، وتلقّت الهزائم من جيوش غير نظامية. ومع ذلك، ما تزال قوّتها الثقافية قائمة. فلا الصين ولا الهند ولا البرازيل ولا أمريكا اللاتينية نجحت في طرح أسلوب حياة بديل يُمكنه الحلول مكانها. فلننتظر ونرَ: إلى أي مدى يمكن للولايات المتحدة، التي لم تعد أجنحتها الأخرى تعمل كما في السابق، أن تُحلّق بجناحٍ واحد فقط؟

#الهيمنة الثنائية
#القوة العسكرية الأمريكية
#الحرب العالمية الثانية
#إعادة إعمار أوروبا
#الاتحاد السوفييتي
#القوة الناعمة الأمريكية
#نهاية الهيمنة الأمريكية