ذبح القرابين عند اليهود

08:2811/06/2025, Çarşamba
تحديث: 11/06/2025, Çarşamba
ياسين اكتاي

في الحقبة التي شهدت أعمق تفاعل بين الفكر اليهودي والبيئة الفكرية الإسلامية، تأثر الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون، بعلماء الكلام والفلاسفة المسلمين، ويمكن تتبع آثار المفهوم الإسلامي للأضحية في آرائه حول القربان، غير أن هذا التأثر لا ينبغي أن يُفهم بالضرورة على أنه تأثير لاحق للإسلام - بوصفه ديناً متأخراً - على اللاهوت اليهودي، بل يمكن اعتباره إعادة اكتشاف للحقائق الأصيلة الكامنة في اليهودية كديانة توحيدية. فعلى سبيل المثال، يرى موسى بن ميمون أن القربان ليس حاجة إلهية، بل حاجة إنسانية. فالله في العقيدة


في الحقبة التي شهدت أعمق تفاعل بين الفكر اليهودي والبيئة الفكرية الإسلامية، تأثر الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون، بعلماء الكلام والفلاسفة المسلمين، ويمكن تتبع آثار المفهوم الإسلامي للأضحية في آرائه حول القربان، غير أن هذا التأثر لا ينبغي أن يُفهم بالضرورة على أنه تأثير لاحق للإسلام - بوصفه ديناً متأخراً - على اللاهوت اليهودي، بل يمكن اعتباره إعادة اكتشاف للحقائق الأصيلة الكامنة في اليهودية كديانة توحيدية.

فعلى سبيل المثال، يرى موسى بن ميمون أن القربان ليس حاجة إلهية، بل حاجة إنسانية. فالله في العقيدة التوحيدية، منزّه عن أي حاجة مادية؛ لأن مفهوم الحاجة يتنافى مع كمال الإله في التوحيد. ولذا فإن القرابين لا تُقدَّم لإطعام الله، أو لإرضائه، أو لتهدئة ما قد يُنسب إليه مجازًا من حالات "عاطفية" كالغضب أو الحزن أو غيرهما، بل شُرعت لتكون وسيلة لتربية الإنسان دينيًا والارتقاء به روحيًا.

لكن أيّ قربان يقصد؟ إن الذبيحة التي يصفها ابن ميمون هي مجرد مرحلة انتقالية تاريخية، نظامٌ مؤقتٌ اقتضته مرحلة معينة، وحين بلغ الناس درجة من النضج الروحي والعقلي لم تعد هناك حاجة إلى تقديم القرابين، ومن ثم لا حاجة لتعليم الأجيال اللاحقة عبر هذه الوسيلة.

وقد تناول ميمونيدس في كتابه الشهير دلالة الحائرين قصة الأضحية أو الحكمة الكامنة وراء إلغاء القربان بهذه الطريقة، موضحاً ذلك بشكل مفصّل ومقنع من وجهة نظره. ووفقاً له، فإن الأضحية كانت موجودة أصلاً قبل زمن الشريعة اليهودية، ومصدرها تقاليد نشأت بين الناس أنفسهم.

"لقد كانت العادة السائدة آنذاك، ونمط العبادة العام لدى بني إسرائيل، هو تقديم الذبائح في المعابد التي تضم صورا وتماثيل، والسجود لها وإشعال البخور أمامها، ولم تكن حكمة الله البالغة، ورحمته الظاهرة في كل ما خلق، لتقتضي إرسال شريعة تُبطل فجأة كل هذه الأنماط من العبادة دفعة واحدة؛ لأن الطبيعة البشرية التي ألفت هذه الممارسات واعتادت عليها، لا يمكن أن تتقبل زوالها التام دفعة واحدة" (ص. 523).

وهكذا يرى ميمونيدس أن تقديم القرابين المحروقة في العصور الأولى لم يكن بأمر إلهي، بل هو في جوهره جزء من التقاليد الشائعة بين الناس آنذاك، وكذلك الأمر بالنسبة لأشكال القرابين الأخرى، ولم يكن من الممكن أن يُبطلها الله فورًا، لأن ذلك يتنافى مع الطبيعة البشرية. ويستشهد ميمونيدس بمثلٍ عن رحمة الله بجميع الثدييات قائلاً: "حين تلد الثدييات، يكون صغارها ضعافًا للغاية ولا يمكنهم التغذّي على طعام صلب. ولهذا منح الله هذه الكائنات أثداءً تُدرّ اللبن، ليتمكن المولود الجديد من الحصول على غذاء لين يتناسب مع طبيعته. وبذلك، تتطور أعضاء هذه الكائنات تدريجيًا، حتى تصير قادرة على التعامل مع الطعام الصلب" (ص. 522).

ويوضح ابن ميمون أن الشريعة الإلهية سارت في تشريعها على هذا النمط التدريجي. ولذا فإن العديد من الأحكام التي شرعها الله لم تتخذ صورتها النهائية دفعة واحدة، بل راعت هذا النضج البشري التدريجي. وعندما نضع في الاعتبار مقاصد الشريعة ومراحل التطور البشري، قد تبدو الشريعة اليهودية مختلفة كثيرا.

ويقول ابن ميمون: "لم يوجّه الله أولئك الناس مباشرةً إلى الطريق القويم وهو الغايةُ الأولى، لأن طبائعهم لم تكن لتسمح لهم بسلوك طريق آخر يوصلهم إلى الغاية المرجوة. وكذلك فرض الله الشرائع المذكورة، لأن طبيعتهم كانت لا تقوى قبولها، وبهذه الطريقة يُتاح لهم بلوغ المقصد الأول، أي إدراك الله، والابتعاد عن عبادة الأصنام" (ص. 524).

وعند العودة إلى مثال القربان، يؤكد ميمونيدس أن "الذبيحة وإن كانت تُقدّم باسم الإله، إلا أنها لم تُفرض علينا كما في العصور الأولى.، فلم تعد عبادةً تُقام في كل زمانٍ ومكان، ولا عبادة يمكن لأي أحد أن يؤديها في أي معبد كان. (ص. 526).

لقد ذُكر أن القرابين ليست غايةً بذاتها، وأن الله غنيٌّ عنها. فقال صموئيل: «هَلْ مَسَرَّةُ الرَّبِّ بِالْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ كَمَا بِاسْتِمَاعِ صَوْتِ الرَّبِّ؟ » (1 صم 15: 22). وجاء في إشعيا 1: 11 «لماذا لي كثرة ذبائحكم يقول الرب؟». أما إرميا فيقول: "لأني لم أكلم آباءكم ولا أوصيتهم يوم أخرجتهم من أرض مصر من جهة محرقة وذبيحة. بل انما أوصيتهم بهذا الأمر قائلا اسمعوا صوتي فأكون لكم إلها وأنتم تكونون لي شعبا وسيروا في كل الطريق الذي أوصيكم به ليحسن إليكم." (إرميا، 7: 22–23) (ص. 527).

ومن أجل أن يُبرر ابن ميمون دعوته إلى إلغاء الذبائح بجميع أشكالها، بما في ذلك المحروقات وغيرها، فقد اقتضى منه الأمر أن يعيد تفسير بعض نصوص التوراة الظاهرة والصريحة التي تأمر بذلك. فعلى سبيل المثال، يفسر ابن ميمون العبارات التي تأمر بالمحروقات والذبائح باسم الله، كما وردت في سفر إرميا، قائلاً إن المقصود الأول منها هو: "أن تُدركوني، وألا تعبدوا غيري"، مستشهداً بـ «فأكون لكم إلها وأنتم تكونون لي شعبا» (إرميا 7:22-23). ويوضح من هنا أن القصد كان محو آثار عبادة الأوثان، وأنه بتحقق هذا القصد، لم تعد هناك حاجة لهذه الوسيلة. بل ذهب أبعد من ذلك، موضحًا أنهم ارتكبوا ضلالاً حين تمسكوا بالشكل وقدموه على أنه حاجة إلهية، بينما الهدف الأساسي كان القضاء على عبادة الأوثان وعبادة الله وحده.

ووفقًا للعديد من المذاهب اليهودية، التي كان ابن ميمون أبرز ممثليها، فإن الذبيحة كانت مرحلة انتقالية تاريخية مؤقتة، ثم أُلغيت عندما بلغت البشرية مستوى يفهم غايتها.

لكن الحقيقة التي باتت أكثر وضوحًا في أيامنا هذه، هي أن "اليهود الصهاينة"، كجماعة قومية، لا يتورّعون عن التضحية بأي مبدأ أو إنسان إن كان ذلك يقرّبهم من غايتهم على الأرض (صهيون). إن الدور الرائد لليهود اليوم في الإبادة الجماعية، والاغتصاب، والاحتلال، والدعاية الكاذبة، والإباحية، على الرغم من وصاياهم بعدم السرقة والقتل والكذب والزنا، هو سلوك يعلق جميع الوصايا العشر بالنسبة لغير اليهود، وهو بحد ذاته قضية تتعلق بالذبيحة.


#القرابين
#اليهود
#إسرائيل
#الصهاينة
#الذبيحة
#الأضحية
#الإسلام
#موسى بن ميمون