لقد مرت أربع سنوات على انسحاب الولايات المتحدة وجميع أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) من المستنقع الأفغاني. وإذا أخذنا تاريخ 15 أغسطس كنقطة مرجعية، يمكننا طرح تسعة أيام من هذه المدة.
وإذا وصفنا أفغانستان بـ"المستنقع"، فهي مستنقع للمحتلين طبعًا. أما بالنسبة لمن يرغبون في دخول أفغانستان بالطرق المشروعة، فهي جنة على الأرض؛ بشعبها ومناخها وطبيعتها الساحرة، ومواردها التي حباها الله لها. ولعل أبلغ ما قيل في هذا السياق ما جاء على لسان أحد ممثلي حركة طالبان خلال مفاوضات الانسحاب الأخيرة، حين طُرح عليهم مقترح إبقاء بعض الجنود في السفارة لحمايتها، حيث رد قائلًا: "لن نسمح لكم بامتلاك حتى مسدس واحد. أما الحماية، فنحن قادرون على حماية كل من يدخل هذا البلد، سنحميكم ونكرمكم كضيوف، لكن شريطة ألا تأتوا عن طريق الاحتلال أو الاستعمار. ففي كل مرة تأتون بهذه الطريقة، لن تلقوا منا سوى القتال حتى آخر جندي فينا." وبالفعل، تنشر أفغانستان حاليًا مقاطع فيديو ترويجية للسياحة بلغة لطيفة وأسلوب ساحر وفكاهي للغاية، وتدعو كل من يرغب في زيارة البلاد عبر الوسائل المشروعة إلى الاستثمار والسياحة فيها.
ومع اقتراب الذكرى الرابعة لتحرر أفغانستان من الاحتلال الأمريكي، نعود مرة أخرى بعد عام ونصف من زيارتنا الأخيرة. ونسعى هذه المرة إلى معاينة ما حدث خلال السنوات الأربع التي أعقبت "الفتح" كما يسميه الأفغان، وما طرأ من تغيرات منذ آخر مرة وطئت أقدامنا هذه الأرض، ومدى التقدم في المسارات التي رصدناها آنذاك.
وأول التطورات الجديرة بالملاحظة هي إطلاق الخطوط الجوية التركية رحلاتها إلى أفغانستان خلال هذه الفترة، حيث تُسيّر يوميًا رحلة بطائرة كبيرة إلى كابول وهي ممتلئة تمامًا بالركاب. وفي السابق، عندما كانت "كام إير" الأفغانية هي الخيار الوحيد، كانت الطائرة بالكاد تصل إلى ثلث طاقتها الاستيعابية. واليوم، لم تزدد الرحلات إلى أفغانستان فحسب، بل إن هذه الرحلات المتزايدة تجد صعوبة في تلبية الطلب المتنامي على السفر.
ورغم أن بين الركاب عددًا من الأتراك المسافرين إلى أفغانستان لأغراض تجارية أو استثمارية أو سياحية، فإن الغالبية العظمى من المسافرين هم من الأفغان، إضافة إلى نسبة من ركاب قادمين من أوروبا ودول أخرى. ذلك أن السفر إلى أفغانستان من معظم البلدان الأوروبية لا يمكن إلا عبر إسطنبول، ما يجعل الخطوط الجوية التركية تجمع المسافرين من مختلف أنحاء العالم في إسطنبول قبل نقلهم إلى كابول.
ومن بين الركاب، هناك من يعود إلى وطنه لأول مرة منذ 20 أو 30 أو حتى 40 عامًا من الغياب. هؤلاء يفضلون عدم الخوض في تعليقات سياسية موسعة حول حكم طالبان، لكنهم يشيرون بإيجاز إلى أن البلاد تنعم حاليًا بالاستقرار والأمن، وأن الحكومة تدعو جميع الأفغان ولأول مرة، للمساهمة في تنمية الوطن.
وقد أشرنا في زيارتنا السابقة إلى أن أفغانستان شهدت خلال الخمسين عامًا الأخيرة، تغيرات في السلطة اتسمت جميعها بالدموية، والثأر، وتصفية الحسابات مع من سبق. فكل تغيير كان يخلّف وراءه موجات هجرة كبيرة. ولكن هذه المرة، ولأول مرة، التزمت طالبان في ولايتها الثانية بالعفو الذي أعلنته، متجاوزة تمامًا ممارسات الانتقام أو تصفية الحسابات مع الماضي.
والحقيقة أن إعلان العفو في مجتمع كالمجتمع الأفغاني، حيث تمتد جذور الثأر العشائري والنزاعات القبلية عميقًا في النسيج الثقافي والتقليدي، يعد أمرًا بالغ الصعوبة. أما تطبيقه على أرض الواقع، فهو في العادة شبه مستحيل. ومع ذلك، تمكنت طالبان من تحقيق هذا الأمر الذي يكاد يكون مستحيلًا. ولا يحتاج من يرغب في معرفة قوة طالبان وسلطتها ونفوذها في المجتمع إلى البحث في مكان آخر؛ فهذا الإنجاز خير دليل.
في الحقيقة، إن قدرة حركة طالبان – رغم ما يحيط بها من تصورات سلبية – على إعلان هذا العفو الشامل وتطبيقه، وتحقيق ما كان يُعدّ شبه مستحيل من مصالحة مجتمعية، تمثل إنجازًا بالغ الأهمية يستحق اهتمامًا وتقديرًا كبيرين. فهذا المسار يشكّل في جوهره، قصة نجاح حقيقية ينبغي للباحثين في مجالات السلم الأهلي وإدارة الأزمات أن يتأملوها بعناية ويستخلصوا منها الدروس.
وعلى مدى السنوات الأربع الماضية، لم يُسجَّل أي خرق لهذا العفو، رغم أن أفراد حكومة طالبان الحالية – ممن أُفرج عنهم من السجون – يلتقون يوميًا في الشوارع والأحياء ذاتها بأشخاص سبق أن مارسوا بحقهم التعذيب، أو اضطهدوهم، وربما حتى قتلوا ذويهم. وعندما طُرح موضوع العفو للنقاش قبيل إعلانه، أبدى بعض كبار قادة الحركة رغبتهم في وضع استثناءات تستهدف أشخاصًا بعينهم لمعاقبتهم. غير أن أمير الإمارة الإسلامية، المولوي هبة الله أخوند زاده، حسم النقاش برفض أي استثناءات، مؤكدًا أن العفو سيشمل الجميع دون تمييز، وقد تم اعتماد قراره بالكامل.
وبينما لا يزال العالم ينظر إلى طالبان من خلال الصور النمطية والحملات الإعلامية المشوَّهة، كان وقع هذا القرار داخل أفغانستان بالغ التأثير، إذ انتشر سريعًا بين الناس، ودفع مئات الآلاف من الأفغان في الخارج إلى العودة إلى وطنهم للمرة الأولى منذ سنوات طويلة.
ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، إذ إن ما أُنجز في مجال مكافحة المخدرات أيضًا أمرٌ لا يُصدق. ففي بلد كأفغانستان، الذي أنهكته الحروب ويواجه اليوم تبعاتها المادية والاقتصادية، كان من الممكن لزراعة المخدرات أن تمثل مصدرًا اقتصاديًا ضخمًا. وعندما تحدثنا عن هذا الأمر بعد زيارتنا السابقة، سواء في مقالاتنا أو في المؤتمرات التي شاركنا فيها، لمسنا دهشة عارمة لدى الناس، إذ لم يصدق كثيرون أن طالبان تخلت فعلًا عن هذا المورد المالي الهائل، وكان الاعتقاد السائد لدى الكثيرين أن طالبان إما تواصل العملية سرًا، أو أنها عاجزة عن التخلي عن أرباح تجارة المخدرات. فالكثيرون لم يستطيعوا تصديق أن طالبان قد حققت المستحيل.
في الواقع، كان من الممكن أن تدير حركة طالبان هذا الملف بشكل سري، بما يتوافق مع الشكوك السائدة لدى كثير من الناس عن نواياها، خاصة أن الاقتصاد المتعلق بهذا الملف كان ضخمًا. وربما كان أفراد النظام السابق والولايات المتحدة يعتمدون على هذا الاقتصاد. لكن في هذا السياق، حسم قرار إمام آخوندزاده الأمر بشكل قاطع في بيان موجز جاء فيه: "يمنع زراعة الخشخاش والاتجار به واستخدامه".
وسبب منعه لأنه محرّم شرعًا، والحرمة بحد ذاتها سبب كافٍ للابتعاد عنه، بغض النظر عن أي فائدة اقتصادية قد يحققها للمجتمع. فمنذ أربع سنوات، تم حظر زراعة جميع النباتات التي كانت تُستخدم كمصدر للمخدرات.
وبدلًا من زراعة تلك النباتات، بدأت زراعة الزعفران في تلك الحقول، وهو نبات ذو قيمة عالية في أفغانستان، ورغم أن عائداته الاقتصادية لا تضاهي عوائد المخدرات، إلا أنها تعتبر مصدر دخل جيد.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، فقد تم تحديد قرابة ثلاثة ملايين مدمن مخدرات في أفغانستان، وبدأت السلطات بعلاجهم. وتشير التقارير إلى أن الغالبية العظمى منهم قد تلقوا العلاج. ولا يقتصر الأمر على العلاج، بل يُقدَّم لهم أيضًا دورات مهنية لتأهيلهم ومساعدتهم في الحصول على فرص عمل. وهذا الأداء في مكافحة المخدرات يفوق ما تقدمه برامج مكافحة المخدرات في العديد من دول العالم، ويعد هذا أيضا إنجازًا استثنائيًا تحقق في وقت قصير.
إن الحياة الاجتماعية في أفغانستان ليست بالصرامة الظاهرة التي يعتقدها الكثيرون. بل على العكس قد تبدو في بعض الجوانب مريحة أكثر مما هو متوقع. وسنواصل نقل انطباعاتنا حول هذا الموضوع.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة