هل نقدك موجّه لإسرائيل أم لمن يقف في وجهها؟

08:1313/10/2025, الإثنين
تحديث: 13/10/2025, الإثنين
ياسين اكتاي

تتباين التقييمات حول نتائج “طوفان الأقصى”. فبعد أكثر من سبعين ألف شهيد، وتدمير أكثر من 90% من المدينة بالكامل تقريباً، وإصابة وإعاقة ما يزيد عن مائة ألف شخص، يصعب إقناع البعض بـ نصر حماس. وربما يقتنع البعض إذا ذكّرناهم بمنطق حديثنا عن “نصر جناق قلعة” بعد استشهاد 250 ألف شخص هناك. ذلك النصر الذي ألهم الشاعر محمد عاكف لكتابة “ملحمة جناق قلعة”، وغرس في قلوب من قرؤوها طوال قرن كامل معنى البطولة والرهبة الكامنين في تلك المعركة وكأنهم يعيشونها. لا شك أن الكثيرين لن يقتنعوا حتى بهذا المثال. وهذا ليس بالأمر

تتباين التقييمات حول نتائج “طوفان الأقصى”. فبعد أكثر من سبعين ألف شهيد، وتدمير أكثر من 90% من المدينة بالكامل تقريباً، وإصابة وإعاقة ما يزيد عن مائة ألف شخص، يصعب إقناع البعض بـ نصر حماس. وربما يقتنع البعض إذا ذكّرناهم بمنطق حديثنا عن “نصر جناق قلعة” بعد استشهاد 250 ألف شخص هناك. ذلك النصر الذي ألهم الشاعر محمد عاكف لكتابة “ملحمة جناق قلعة”، وغرس في قلوب من قرؤوها طوال قرن كامل معنى البطولة والرهبة الكامنين في تلك المعركة وكأنهم يعيشونها.

لا شك أن الكثيرين لن يقتنعوا حتى بهذا المثال. وهذا ليس بالأمر المهم أيضاً. ففي النهاية، لا سبيل لمحو الفروقات تماماً في طريقة نظر الناس إلى القضايا والأحداث.

عندما سلك مجاهدو غزة هذا الطريق، ماذا كانوا يتوقعون؟ كان أبو عبيدة، المتحدث باسم كتائب القسام، يوجه نداء إلى القادة المسلمين في أشد اللحظات التي كانت فيها الهجمات الإسرائيلية الوحشية والهمجية تستعر وتقتل الأطفال والنساء بوحشية قصوى: إياكم أن تظنوا أننا ننتظر منكم المساعدة، حذار أن تزعجوا راحتكم، نحن لا نطلب العون إلا من الله. وهو سبحانه يرسل إلينا المساعدة على يد من يراه أهلاً لذلك. وحتى لو لم يأت أي عون، وقدّر لنا الشهادة على هذا الدرب، فلا بد أنه أراد لنا بذلك الخير. والله لسنا بمتذمرين من ذلك. إنه لجهاد إما نصر أو استشهاد. وكلاهما محسوب في ميزاننا. لم ننتظر ولن ننتظر منكم أن تأتوا بجيوشكم لتقاتلوا بجانبنا، لكن على الأقل لا تُظهروا العجز في إيصال المساعدات لأبناء أمتكم وأطفالها ونسائها وشيوخها المهددين بالموت جوعاً."

كان أبو عبيدة يدرك تماماً أنه ليست كل الشعوب قادرة على تحمل الصعوبات التي يواجهونها هو وشعبه الباسل في هذا النضال.

ولكنه كان يقدم أيضاً قائمة بما يمكن أن يفعله أولئك الذين يقفون معهم بقلوبهم: ألا يتقاعسوا عن فعل أي شيء ممكن في هذا الطريق. وإذا تعذّر القيام بكل شيء فليس معناه العجز التام؛ من لا يستطيع دفع الشر بيديه، فهناك ما يُمكن فعله بلسانه وكتاباته، وأفعاله، ومشاركاته على وسائل التواصل الاجتماعي، وحضوره في ساحات المظاهرات، وهتافاته، ومقاطعاته. إنّ عدم القدرة على كل أوجه الدعم لا يعني أنه لا يمكن فعل شيء على الإطلاق.

لقد لاقت هذه النداءات صدى لها بالفعل. فاستجابةً لدعوات أهل غزة، وبانتفاض أصحاب الضمائر الذين شهدوا الأحداث، تحولت القضية الفلسطينية في وقت قصير إلى قضية عالمية. واليوم لم تعد فلسطين قضية الفلسطينيين فحسب، بل أصبحت الكلمة المفتاحية لجميع نضالات الحرية والكرامة الإنسانية في العالم. لم يعد الفلسطينيون شعبا مضطهدا، ومظلوما، وعاجزا، وضحية، بل اكتسبوا مكانة مرموقة كرمز للمقاومة ضدّ الهيمنة الاستعمارية القاتلة في العالم. ولا يمكن التقليل من أي جهد، أو أي عمل، أو أي خطوة تُبذَل في هذا الصدد، أو نزع مصداقيتها، أو إنكارها.

ولكن هنا بالضبط يتدخل الشيطان الذي يقف في صف الظالمين. إذ يزرع الفتن بين الناس الذين انطلقوا نحو الهدف ذاته، من خلال إجراء مقارنات بين الأعمال التي تُنفّذ في هذا الطريق. فهناك من يجلسون في بيوتهم دون أن يبذلوا أي جهد يذكر، يستهينون ويقارنون ويهينون أولئك الذين يندفعون للعمل من أجل غزة. وإذا استمعت إلى خطابهم، قد تظن أنهم قاموا بأعمال أكبر بكثير من أجل غزة، وأنهم يعيشون لقضيتها ليل نهار، وأنهم يحترقون ألماً على الذين يموتون هناك. لكن الحقيقة مختلفة تماماً، هدفهم ليس نضالاً أو أداءً أفضل أو أكثر استراتيجية، بل هو فقط التقليل من شأن ما يتم إنجازه، وبالتالي تثبيط همم الناس لعدم المشاركة في مثل هذه الأنشطة بجعلها تبدو بلا معنى. ولكن كلّ هذه الجهود، كبيرة كانت أم صغيرة، تراكمت مع غيرها حتى أنتجت هذا الزخم العالمي، إذ أصبحت القضية الفلسطينية قضية عالمية، وازدادت عزلة إسرائيل وخسرت سمعتها عالميا. إن نجاح القضية يعود بالأساس إلى كل يدٍ حملت ماءً لإطفاء نار الظلم، إلى كل صوتٍ أعلن موقفه في كل محفل دون مراوغة. فهل ثمة من يجهل قيمة هذه الجهود المتراكمة؟

لو كان المحتجون صادقين حقاً، لما اتخذوا ممن يعملون بالفعل لأجل غزة هدفاً لهم. فكل من ساهم في هذا الدرب قد حدد موقفه ومكانته، وأعلن وقوفه مع أهل غزة ضد الظلم، وأصبح صديقاً لغزة، وحري بنا أن نتعامل معه بمشاعر الأخوة المتجذرة في نصرة غزة.

ومن أجمل وأكفأ وأروع الأعمال التي بُذلت في هذا السياق حركةُ «أسطول الصمود». وبصدق أقول، إنها حركة نظرت إليها بغبطة. وقد سعيتُ في مرحلة ما للمشاركة فيها، وبدأت زوجتي أيضاً بجميع تحضيراتها للمشاركة قائلة لي "لا يمكنك الذهاب بدوني". ولكن لم يُقدّر لنا ذلك، ولم نتمكن من الذهاب. ولكن، نحن نؤمن يقينا بأن الذين شاركوا قد قاموا بعمل بطولي عظيم. وقد لاقى هذا تقديرا كبيرًا من أهل غزة ومن كلّ من شارك في النضال. ورغم ذلك، ثمّة من يجد صعوبة في تقبّل الفرحة التي أبداها العائدون، ويعتبرونها استعراضاً، قائلين: "هذه تصرفات تنسي غزة، ويصفونهم بثلاثة أو أربع فنانين استعراضيين"، متخذين من ذلك ذريعة لعرضهم القبيح الخاص.

والأدهى من ذلك، أن المؤرخ الذي انتقدناه سابقًا بسبب نزعة تكفيرية غريبة لا تليق بأهل السنة وأخلاقهم، يقوم بانتقاد آيشين كانط أوغلو - التي سارعت منذ 7 أكتوبر لتكون مندوبة عن الضمير والجهد الإسلامي منذ 7 أكتوبر ـ بأكثر الأساليب سفاهة وانحطاطاً أخلاقياً.

هل مشكلتك مع إسرائيل أم مع من يرشقونها بالحجارة؟

إذا وصل بك الأمر أن تهاجم من يرمون الشيطان بالحجارة، فما هي القضية التي تدعي حملها أيها الغافل؟

ثمّ كيف لأسطول الصمود أن يُنْسِي أحدًا قضيةَ غزة وقد عملَ بوضوحٍ من الألف إلى الياء على إبقائها في صدارة الاهتمام؟ كيف ينسى من حَرَكَتْهُ المبادئ والضميرُ؟ أيُّ عقل هذا؟ وأيُّ علم هذا؟ ما مشكلتك حقًّا؟ هل هذه الثرثرة تُقوّي جبهةَ غزة أم تُقوّي جبهةَ الصهاينة؟ لو نظروا من هنا فقط لعلموا إلى أيّ ذلٍ سقطوا. طبعًا إن لم يكونوا سقطوا عن قصدٍ وعلم.

كلامي هنا موجه تحديداً إلى أولئك الذين أخطأت بوصلة تضامنهم مع غزة، فوجدوا أنفسهم يهاجمون من وصفوهم بأنهم "لا يقدمون الدعم الكافي" لغزة، بقوة تفوق هجومهم على إسرائيل وحلفائها. إنها حالة غفلة خطيرة دفعتهم، دون علم، إلى الوقوع في صف إسرائيل وحلفائها. إنهم بحاجة ماسة إلى مراجعة صادقة لمواقفهم.

وهناك "عبقري" آخر عقد مقارنة بين الكلمات المتقنة لغريتا ثونبرغ التي شاركت في أسطول الصمود، والمواقف الحماسية للمشاركين الأتراك، ليقدم تحليلاً عن "التديُّن". زعم هذا "العبقري" أن غريتا ذهبت لتفضح الظلم وتدافع عن الإنسانية كإنسانة، في حين أن "المتدينين" ذهبوا للمتاجرة بالدين والقيام باستعراض.

لقد ذكرتُ أن مصطلح "دينجي" (المتدين) في تركيا هو وصف يُطلق على المسلمين. فإذا كان من يقوم بهذا الفعل هو شخص اقتات لسنوات على "التديّن" بين المسلمين، فهو في الواقع يخدم مصالح غير المسلمين. ولا عجب أن يتهافت على التعليق على منشوره كل صهيوني وكمالي معادٍ لحماس وفلسطين والمسلمين، محاولين الاستفادة من هذا الطرح.

في حين أن غريتا والمشاركين من تركيا ذهبوا لهدف واحد، وجميعهم بذلوا جهودًا جبارة لخدمة الإنسانية في غزة أكثر مما بذله أي شخص آخر. ومن الطبيعي تمامًا أن تكون هناك فروقات في الشخصية، واختلاف في الأسلوب والقدرات بينهم، لكن استغلال هذا الاختلاف لإطلاق أحكام متحيزة أو لتمييزٍ فئوي بين المشاركين هو عمل خائن، يخدم مصالح الصهيونية مرتكبة الإبادة الجماعية.

خلاصة القول: كل من يبذل قصارى جهده من أجل غزة له قدره ومكانته، تحية لكل هؤلاء.


#إسرائيل
#غزة
#تركيا
#فلسطين
#أسطول الصمود