
يُعد راشد الغنوشي الاسم الأبرز بين رواد الحركات الإسلامية المعاصرة الذي أكد على قضايا الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتعايش، والحوار ضمن خطابه الإسلامي، بل جعل من هذه المفاهيم محورًا لنهجه في النضال. وقد طوّر الغنوشي خطاباً إسلامياً فريداً بفضل هذا التركيز، في مواجهة رد الفعل الإسلامي السائد الذي اعتاد على النأي بالنفس عن هذه المفاهيم، لأنها كانت تصدر غالباً من أفواه الغربيين.
وحين أُتيحت له فرص المشاركة السياسية بعد اندلاع ثورة "الربيع العربي" من تونس، لم يتخلَّ عن هذه المبادئ، بل شدّد عليها أكثر من أي وقت مضى. كانت رؤيته الفكرية العميقة تعكس إخلاصاً صادقاً لمسؤولية حكيمة تدعو إلى بناء تونس جديدة بمشاركة جميع التونسيين دون استثناء.
ولم يسعَ الغنوشي إلى التنكّر لما قاله سابقًا أو التراجع عنه بعد توليه السلطة، بل حاول أن يجعل منها وسيلة لتطبيق كل ما دعا له سابقاً. ورغم كونه الشخصية الأكثر شعبية في تونس ما بعد الثورة، وكان بإمكانه الترشح للرئاسة، إلا أنه دعم صديقه صاحب الجذور الاشتراكية المنصف المرزوقي في انتخابات الرئاسة، وأسهم بدوره في فوزه بمنصب رئيس الجمهورية. وعلى مدى أربع سنوات، خاض الرجلان معًا نضالاً من أجل بناء تونس على أسس الديمقراطية وكرامة الإنسان وحقوقه.
كان الغنوشي يدرك كيف أن الأساطير والأوهام التي روّجتها الأنظمة الديكتاتورية العلمانية عن الإسلاميين قد سمّمت وعي المجتمع، وكان يرى أن التخلص من هذا السم لا يكون بتجاهل الأمراض التي خلفتها تلك المرحلة. وبينما كانت تجري محاولات لإجهاض جميع الثورات العربية من خلال عمليات الانقلاب المضاد، والتي نجحت معظمها، واجه الغنوشي محاولة إفشال الثورة التونسية بموقف سيُخلّد في التاريخ، إذ قال مخاطبًا داعمي الانقلاب في الدول المجاورة: "لقد صدّرنا إليكم ثورة ديمقراطية، ولا ننوي استيراد انقلاب يجلب الديكتاتورية".
ولكن رغم كل هذا الموقف الديمقراطي والـ "معتدل" المزعوم والحكيم، لم تنجُ تونس التي قادها الغنوشي من الانقلاب. والأدهى أن الانقلاب جاء من حيث لم يكن متوقعاً، من صميم العملية الديمقراطية. ففي إحدى الليالي، أعلن الرئيس الذي انتُخب بأصوات الشعب، ومن ضمنها أصوات الغنوشي وحركة النهضة تعليق العمل بالدستور وحل البرلمان الذي كان الغنوشي رئيساً له. تبع ذلك فتح قضايا ملفقة ضد زعيم حركة النهضة البالغ من العمر 82 عاماً وإيداعه السجن. ولا يزال الغنوشي مسجونًا منذ ذلك اليوم. إن أحد أبرز وأعمق المفكرين في العالم الإسلامي، الذي كان ينبغي أن يكون اليوم في موقعٍ يوجّه فيه الأمة بنصائحه وأفكاره، يقبع وهو في الرابعة والثمانين من عمره خلف القضبان. وهذه المأساة ليست عارًا على تونس وحدها، بل على العالم الإسلامي بأسره.
ومؤخرًا، أعلن الغنوشي الذي يُحتجز منذ عامين ونصف، أنه بدأ إضراباً عن الطعام يوم الجمعة الماضي. غير أن هذا الإضراب لم يكن احتجاجًا على الظلم الذي لحق به شخصيًا، بل بدأه تضامنًا مع معتقلٍ سياسي آخر وهو جوهر بن مبارك. وقد أعلنت سمية الغنوشي، ابنة راشد الغنوشي ورئيسة تحرير مجلة "ميم"، قرار والدها في رسالة مصورة قائلة:
"أضرب والدي أمس عن الطعام تضامنًا مع جوهر بن مبارك. ورغم بلوغه الثمانينيات من عمره، إلا أنه يقاوم بجسده وروحه وإرادته؛ رافضًا الاستسلام لهذا الانقلاب الجنوني الغادر في تونس".
وبفضب موقف الغنوشي تعرّف كثيرون لأول مرة على جوهر بن مبارك، وهو أحد أبرز خبراء القانون الدستوري في تونس، وأحد أشهر الأكاديميين والسياسيين فيها. وقد برز في السنوات الأخيرة بانتقاداته الحادة للإجراءات الاستثنائية التي بدأها الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو/تموز 2021، مما جعله أحد الرموز البارزة للمقاومة ضد القمع السياسي في البلاد.
ويُعرف جوهر بن مبارك منذ سنوات طويلة بأنه مدافع عن الإصلاح الديمقراطي والحريات. وشارك في العديد من اللجان التي عملت على الإصلاحات الدستورية في مرحلة ما بعد ثورة 2011. وهو أحد مؤسسي المنصة السياسية "الاتجاه المعاكس" وحركة "مواطنون ضد الانقلاب"، وهي الحركة التي وصفت بشكلٍ صريح تعليق الرئيس قيس سعيد للبرلمان وبدء حكمه بالمراسيم في عام 2021 بأنه "انقلاب دستوري".
وفي فبراير/شباط 2023، وُجّهت إلى ابن مبارك، مع عدد من السياسيين والقانونيين والمعارضين، اتهاماتٌ تشمل: "التآمر على أمن الدولة"، و"التخطيط لانقلاب ضد الرئيس"، و"التعاون مع جهات خارجية". وبالطبع، هذه الاتهامات ملفقة بالكامل.
لقد شكّل ابن مبارك مع رفاقه تكتلًا معارضًا مدنيًا يناهض حكم قيس سعيّد الفردي، وطالب بإعادة العمل بالنظام الدستوري، وعودة البرلمان، وحماية استقلال القضاء. ولهذا السبب تحديدًا، اتهمتهم السلطات بالتآمر.
ويُعدّ ابن مبارك من أعمق الصرخات وأكثرها هدوءا في تاريخ تونس الحديث. فالحكم الصادر بحقه ليس قرارًا قضائيًا، بل أمرًا بالصمت.
ولا تبدأ قصة بن مبارك من إرهاق مرحلة ما بعد الثورة، بل من جوف اغتيال الديمقراطية. فهو يرى في شعار “التحرر” الذي يرفعه نظام قيس سعيّد قناعًا يخفي شعبًا محتجزاً كرهينة". وعندما يقول: "اختُطفت الدولة، واختُطف الشعب باسم التحرير"، فإنه يحوّل لغة القانون إلى سلاح أخلاقي.
إن جوهر بن مبارك بصرخته ضد الانقلاب، يُرعب الانقلابيين بقدر ما يفعل الغنوشي. وتتردد أقواله المأثورة والعميقة في الأجندة الفكرية والسياسية التونسية. يقول مثلًا: "لقد أُخذت الدولة رهينة، وأُخذ الشعب رهينة باسم التحرير". وفي حديثٍ آخر يقول: "الدستور ليس كتابًا مقدسًا، بل عقدٌ مقدسٌ أبرمه الشعب مع نفسه". ومن أقواله الأخرى:
"من يخون الديمقراطية لا يحق له التحدث باسم الشعب".
"نحن لا نعارض حبا في المعارضة، بل لأننا نرفض الصمت".
"الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع".
"السياسة بدون أخلاق ليست سياسة، بل مجرّد صفقة."
"الشعب أقوى من الخوف".
"الشرعية لا تأتي من فوهة البندقية، بل من صناديق الاقتراع".
"كل سجين سياسي مرآة للدولة".
"سنواصل، فالتوقف يعني قبول الهزيمة."
وابن مبارك لا ينتمي إلى حركة النهضة، ولكنه يلتقي مع الغنوشي، تماماً كـ المنصف المرزوقي في المبدأ نفسه: الدفاع عن إرادةٍ شعبيةٍ سُلبت وقُمعت في تونس.
واليوم، يرفع الغنوشي صوته من جديد نصرةً لهذه القضية، مضربا عن الطعام ومقدّمًا روحه وإرادته في سجنه وهو في الرابعة والثمانين من عمره.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة