الخبر هو كالتالي: "المسيّرات الإسرائيلية أطلقت النار على مدنيين كانوا ينتظرون المساعدات في غزة."
خلال الأسابيع القليلة الماضية، كانت تقريباً كل الأخبار على هذا النحو. هذه الأخبار قُدِّمت كما تُقدَّم أخبار الموت اليومية القادمة من غزة. مئات الناس فقدوا حياتهم بهذه الطريقة، ومئات آخرون أصيبوا بجروح.
ولا أحد يناقش في حقيقة مضمون هذه الأخبار. لا أحد يتساءل عن هذه المأساة الإنسانية، ولا عن أساليب الإبادة الدنيئة التي تُرتكب. لا أحد يلتفت إلى "لعبة الجوع" التي تُجرى على آلاف البشر، ولا إلى قتلهم من باب المتعة، ولا إلى الصيد البشري المنظّم.
السيناريو كالآتي: مؤسسة إغاثية تجمع الناس تحت ذريعة "توزيع الغذاء"، فتجعلهم هدفاً سهلاً لإسرائيل، ثم تأتي إسرائيل لتقتل هؤلاء الذين جُمعوا في مكان واحد.
إنه أسلوب للإبادة لم يكن ليخطر حتى على بال الشيطان. فحين تكون الغاية الوحيدة هي القتل، تُرسم كل السيناريوهات لخدمة هذه الغاية. حتى "المساعدات الإنسانية" تُستخدم لهذا الغرض، وتتحول إلى سلاح.
إنها مجاعة وحصار من نوع خاص: الناس يندفعون إلى الموت ركضاً وراء كيس دقيق، أو رغيف خبز، أو وجبة طعام. وتُستخدم أساليب قتل همجية إلى حدّ أن هذا العار يكفي ليجلّل البشرية جمعاء.
تم إنشاء مؤسسة أمريكية باسم "مؤسسة غزة للإغاثة الإنسانية". في مجلس إدارتها ضباط سابقون في الـCIA، ووراءها المبعوث الأمريكي الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف.
هذه المؤسسة تدخل إلى غزة - التي لا يُسمح بوصول أي مساعدات إليها - بلا أي رقابة أمنية. ليس لها علاقة بمساعدات الأمم المتحدة ولا بأي مؤسسة إغاثية أخرى.
تنشئ أربعة مراكز توزيع في المناطق الجنوبية. يُدعى الناس إلى هذه المراكز للحصول على الطعام، فيركض الجائعون بطبيعة الحال إلى هناك. وعندما يحتشدون، تستهدفهم إسرائيل وتبيدهم.
يُستخدم هذا الأسلوب لتهجير سكان غزة ودفعهم جنوباً تحت وهم تلقي المساعدات، ثم يتم اصطيادهم هناك.
لاحقاً اكتُشف أن مؤسسة غزة للإغاثة أُنشئت بهدف "إضعاف نفوذ حماس من خلال توزيع المساعدات خارج قنوات الأمم المتحدة".
ثم اتضح أن نتنياهو والتيارات اليمينية المتطرفة في الـCIA هم من أنشؤوها. واتضح أيضاً أن هذه المؤسسة تنسّق مع الجيش الإسرائيلي بهدف تقليل عدد السكان، وتفريغ غزة من أهلها، وتحويل الجوع إلى وسيلة إبادة.
تُصدر المؤسسة فاتورة لإسرائيل بقيمة مليون دولار شهرياً مقابل هذه الأنشطة. هذا ما هو معلن. أما ما وراء الكواليس من علاقات وتفاصيل، فسيظهر مع الزمن.
في الأسبوع الماضي وحده، قُتل أكثر من خمسين فلسطينياً بهذه الطريقة في يوم واحد. وفي أيام أخرى ارتفع العدد أكثر.
استخدموا الاحتلال، واستخدموا القصف الجوي، وقتلوا بالطائرات المسيّرة، وحوّلوا الأحياء إلى ركام، وهدموا المساجد والمدارس، وقصفوا المستشفيات وقتلوا المرضى في أسرّتهم، وسمّموا الأرض، ونضبوا مصادر المياه، وقطعوا أشجار الزيتون…
أبادوا كل شيء حيّ. تعمّدوا قتل الأطفال والنساء تحديداً. جرّبوا أبشع الأساليب لإبادة شعبٍ كامل. ابتكروا طرقاً جديدة لم تُرَ حتى عند النازيين والفراعنة.
والآن، يواصلون إبادة من بقي باستخدام سلاح الجوع. حوّلوا ركض الناس الجياع وراء "الرغيف" إلى ركض نحو الموت. صاروا يبيدون الإنسانية بـ"المساعدات الإنسانية"!
لم يشهد العالم أساليب قتل ولا وسائل إبادة جماعية بمثل هذا الانحطاط من قبل. لم يعرف التاريخ دولة بهذا القدر من الدناءة، ولا شعباً داعماً لها بهذه الخطورة.
لم يشهد التاريخ البشري زمناً تحركت فيه مثل هذه الشيطانية بحرية تامة.
لم يعرف جنس البشر مجتمعاً أفسدته الكراهية للإنسانية بهذا القدر من البربرية.
لم يكتفوا بالقتل بالسلاح، بل بدأوا القتل بالخبز. نرى آباء وأمهات يندفعون إلى الموت من أجل حفنة دقيق، من أجل كأس ماء، من أجل وجبة يسدّون بها رمق أبنائهم.
نشهد كيف يضيع عمر طفل في العاشرة وهو يحمل على كاهله مسؤولية رجل في الخمسين. لم يكفِ هؤلاء القتلة الإسرائيليون والأمريكيون أن يكدّسوا آلاف الطائرات والسفن المحملة بالسلاح لإبادة شعبٍ بأكمله.
لم يكفِهم أن يتركوا الجثث في الشوارع تنهشها الحيوانات. لم يكفِهم حشر آلاف الناس في معسكرات اعتقال يعاملونهم فيها معاملة الحيوانات.
والآن نشهد كيف ينفّذ هؤلاء القتلة إبادة جماعية عبر الجوع والغذاء، وكيف يحوّلون الموت إلى إذلالٍ مضاعف.
أحياناً علينا أن نعيد ضبط أنفسنا. أن نعيد تموضعنا في محور الإنسان. أن ننفض عن عقولنا صدأها وعن قلوبنا طبقاتها.
علينا أن نجتهد لنعود إلى حقيقتنا البشرية النقية. وأن نرى العالم لا من منظور السياسة أو الاقتصاد أو الجغرافيا أو المصالح القومية فقط، بل من منظور إنساني خالص.
كانت غزة امتحاننا. امتحاناً للبشرية جمعاء. وقد فشلنا في هذا الامتحان. صارت غزة صرخة قلوبنا، صارت غضبنا وتمردنا وعجزنا وعقدتنا.
غزة كانت نحن في الحقيقة. غزة كانت كل البشرية. كانت خلاصة تاريخ الإنسان. كانت هي الإنسان نفسه، أنقى صورة للإنسانية منذ آدم.
كانت موطناً لأشجع وأشرف البشر. كانت حمّالة الأمانة عن البشرية كلها. كانت حدود الشرف وآخر معاقل القيم.
لكن، وبكل خزي، عجزنا نحن أصحاب الكرامة عن أن نردع كل هذا العار وهذه الخسّة، وعن أن نمنع دفن الرضع أحياءً في الرمل.
لم نستطع أن نقول "توقفوا" لأحقر شعبٍ على الأرض. لم نكن لهم قبضة أو سلاحاً. لكن هذا الحقد سينفجر يوماً. وسينفجر بشكلٍ رهيب، وسيشهد البحر المتوسط على ذلك.
تذكري هذا إسرائيل! إن التاريخ سيعود بانتقامه. وأنتم ستذوقون هذا التاريخ بأنفسكم.
ملاحظة:
غداً عيد الأضحى. أتمنى لكم جميعاً عيداً مباركاً من أعماق قلبي، وأدعو الله أن تتجاوز أمتنا كل هذه المآسي، وأن تبلغ سريعاً أياماً من الرخاء والسلام.
ولا تنسوا أبداً أولئك الذين أقاموا "غيتوهات الإغاثة" ليبيدوا فيها أهلنا. لأن النسيان هو الانتحار. النسيان موتٌ للأمم. حتى إن نسينا، ستبقى المدن شاهدةً ولن تنسى.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة