هويات الغرب القاتلة

08:3625/12/2025, jeudi
تحديث: 25/12/2025, jeudi
سلجوك توركيلماز

يكاد يكون من المستحيل العثور على مقالات نقدية في وسائل الإعلام الرئيسية بأوروبا والولايات المتحدة تتناول جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الصهاينة. لقد كشفت هذه المرحلة أن الغالبية العظمى من المثقفين النخبويين الذين يمثلون الحضارة الغربية مرتبطون بالأيديولوجية الصهيونية. ورغم أننا كنا نتوقع ذلك، إلا أن الحقيقة كانت أكثر ترويعاً. وليس من السهل، بالنسبة لي على الأقل، التنبؤ بالتداعيات التي سيخلفها هذا الوضع داخل بنية الحضارة الغربية. ورغم ظهور دول مثل إسبانيا تحاول الخروج عن السرب وعن الخطاب الغربي

يكاد يكون من المستحيل العثور على مقالات نقدية في وسائل الإعلام الرئيسية بأوروبا والولايات المتحدة تتناول جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الصهاينة. لقد كشفت هذه المرحلة أن الغالبية العظمى من المثقفين النخبويين الذين يمثلون الحضارة الغربية مرتبطون بالأيديولوجية الصهيونية. ورغم أننا كنا نتوقع ذلك، إلا أن الحقيقة كانت أكثر ترويعاً. وليس من السهل، بالنسبة لي على الأقل، التنبؤ بالتداعيات التي سيخلفها هذا الوضع داخل بنية الحضارة الغربية. ورغم ظهور دول مثل إسبانيا تحاول الخروج عن السرب وعن الخطاب الغربي السائد، إلا أننا لم نشهد بعد بزوغ صوت فكري قوي ومؤثر من العالم اللاتيني، باستثناء حالات نادرة وقانونية مثل "فرانشيسكا ألبانيز".

لقد تعمدتُ استخدام صفة "النخبوية" عند الحديث عن المثقفين، ورغم أن الجمع بين مفهومي "المثقف" و"النخبة" هو محل نقاش آخر -كون النخبوية تعود في أصلها إلى تميز قائم على أساس طبقي- إلا أنه يتضح اليوم أن المثقفين الذين يمثلون الحضارة الغربية، أمثال "نعوم تشومسكي"، يعيشون في حالة اندماج مع الطبقات النخبوية الفاسدة. أعتقد أن هذه هي السمة المميزة للعصر "الأنجلوسكسوني" الذي لا يزال يحتفظ بموقعه المهيمن داخل الحضارة الغربية.

بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، انتظر كثيرون عبثًا صدور خطاب جديد من العالم الغربي الخاضع للهيمنة الأنجلوسكسونية بشأن ما جرى في غزة. فقد كانت التصورات التي سادت معاهد الدراسات الشرقية، ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، تُصاغ من قِبل الطبقات النخبوية. واليوم بات من الواضح أكثر من أي وقت مضى أن المنح البحثية المخصصة في تلك المعاهد كانت تحمل طابعًا طبقيًا واضحًا. لقد رأينا كيف أن المعرفة التي أُنتجت حول "الشرق" قد سممت المجتمعات الغربية بأكملها؛ حيث تعمدوا الربط بين الإسلام والإرهاب، وشرعوا في تسويق هذه التصورات النمطية على نطاق واسع. وكان واضحًا منذ البداية أن حملات الدعاية هذه تهدف إلى تحقيق غايات محددة. غير أن الصور النمطية والتمثلات التي أُنتجت وجدت صدى سريعًاحتى في المجتمعات المائلة إلى الغرب مثل مجتمعاتنا. ولم نلحظ مع مرور الوقت، أي شعور بالندم نتيجة الارتهان للفكر الاستشراقي.

وفي المحصلة، لم يعارض الإبادة الجماعية المرتكبة في الأراضي التاريخية لفلسطين سوى فئة محدودة للغاية. أما الغالبية فقد اكتفت بالتعبير عن شكوكها في إنسانية من لم ينتموا إلى الحضارة الغربية. لقد أغمضوا أعينهم جميعاً عن جريمة الإبادة التي تُرتكب أمام أنظار العالم، وانصبّ جلّ همهم على ضمان بقاء إسرائيل الصهيونية. إن هذا الموقف ليس إلا دليلاً قاطعاً على تعصبهم ورجعيتهم.

ومن المثير للاهتمام قلة أولئك الذين يحاولون تجديد أنفسهم بدافع الشعور بالندم على استسلامهم للفكر الاستشراق، سواء في تركيا أو في العالم الغربي. لقد انحاز مثقفونا إلى خيار أيديولوجي وتبنوه دون أدنى مساءلة نقدية، والحال أن الأيديولوجيا التي قدّمها أمثال تشومسكي للعالم كانت تحمل في جوهرها الهوية الأنجلوسكسونية، ولم تكن في حقيقتها إلا أيديولوجيا استعمارية.

إن الأقاويل التي تتحدث عن أفول "القرن الأمريكي" يجب أن تُؤخذ على محمل الجد. وفي هذا السياق، يعد ظهور أسماء مثل تشومسكي في "ملف إبستين" مؤشراً دلالياً بالغ الأهمية؛ فتشومسكي كان بطريقة أو بأخرى مثقف "القرن الأمريكي"، ومن الضروري اليوم إخضاعه للمساءلة بالتوازي مع المساءلة الجارية للحضارة التي يمثلها. وهذه المساءلة ينبغي كذلك أن يقوم بها المثقف التركي الذي آمن بالمركزية الأنجلوسكسونية للعالم.

وقبل أيام، أوصى طه أكيول في أحد مقالاته العالم الإسلامي بـ"المواجهة" مع الذات. وقد بدا لي أن المقصود الحقيقي من كلامه لم يكن واضحًا تمامًا، كما أننا، بحسب ما استطعت متابعته، لم نشهد اعتراضًا واسعًا على هذا الطرح. في حين أن النص كان يحتمل، في أحد وجوهه، معنى "مواجهة الصحابة" أيضًا. وخلاصة القول إن مساءلة الفهم التاريخي هي مسألة منهجية، أما الانخراط في مديح الحضارة الغربية على نحو أيديولوجي فمسألة أخرى تمامًا. ولا نلحظ لدى أكيول أو من هم على شاكلته أي مظهر من مظاهر الندم. ففي تسعينيات القرن الماضي، تبنّوا الليبرالية الأنجلوسكسونية كأيديولوجيا، وانخرطوا في سباق لتسويقها. وحتى وقت قريب، عادوا إلى تسويق أحد أبرز منظّري هذه الأيديولوجيا، مثل دارون عجم أوغلو، كمنقذ لتركيا، بل وذهبوا إلى منحه الجوائز.

إن اختزال تاريخ أوروبا الحديث، في صراع بين النور والظلام عبر تتبّع فلاسفة التنوير، قد أفضى في الحقيقة، إلى نتائج كارثية. لقد بات لزاماً علينا الآن أن نبحث عن "الهويات القاتلة" في دهاليز التاريخ الغربي.

وفي الختام، يبدو أنه لا ينبغي ترك مهمة نقد الحضارة الغربية للمثقفين الغربيين والمعجبين بالغرب وحدهم.



#الغرب
#الحضارة الغربية
#الأتراك
#الاستشراق