في المشاهد المتنوعة التي عكستها جولة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في منطقة الخليج، برزت تفاصيل لافتة تشير إلى الاتجاه الذي تمضي فيه منطقة الشرق الأوسط:
وأول هذه التفاصيل بلا شك كان الإعلان القوي عن نية بعض الدول العربية الغنية في المنطقة التحرك في انسجام كامل مع الولايات المتحدة والنظام العالمي. وقد تجلى هذا بوضوح في كل خطوة من خطوات الزيارة، بدءًا من الاستقبال المهيب لترامب ووصولًا إلى الاتفاقيات الموقعة بقيمة تريليون دولار. فقد استُقبل الرئيس الأمريكي كما لو كان إمبراطورًا، ولم يتوانَ بدوره عن إغراق نظرائه العرب بالابتسامات والثناء، حتى إنه صرّح في طريق عودته قائلاً: "كلهم كانوا متعطشين للحب، لأن بلادنا لم تمنحهم إياه".
أما الاستقبال الذي شمل عروضاً فولكلورية تقليدية، وفتيات يرقصن ويتمايلن بشعورهن كما هو الحال في أبو ظبي، فقد عكس سياسة تنتهجها دول الخليج منذ فترة طويلة: القضاء على الطابع المحافظ الملتزم وخلق مجتمعات أكثر ليبرالية، ذات نزعة غربية، وميول نحو الرفاهية والراحة. وقد لاقت هذه السياسات حماسة من الأجيال الخليجية الشابة، تجلت في حفلات موسيقية ومهرجانات واسعة النطاق في المملكة العربية السعودية، واستثمارات ضخمة في كرة القدم والفن وتنشيط قطاع السياحة وما إلى ذلك. وفي هذا السياق يجري إحياء بعض الرموز السابقة للإسلام والتي اقترنت في الذاكرة الإسلامية بعصر الجاهلية، وذلك تحت شعار "الانتماء الوطني".
وقد زار ترامب في هذه الجولة أحد أبرز المعالم الدينية في الخليج، وهو جامع الشيخ زايد في أبو ظبي، ليكون بذلك أول جامع يزوره منذ توليه الرئاسة. وقد وأبدى اهتمامًا واضحًا بالمعلومات التي قُدّمت له من المسؤولين هناك. وفي ظل انتشار بناء مساجد ضخمة وجديدة في الخليج يبرز سؤال محوري: ما هو الدور الحقيقي للمساجد؟: هل تُبنى هذه المساجد لتعزيز التدين في المجتمعات، أم أنها توجَّه لتكون مراكز سياحية فحسب؟ فالغياب الملحوظ لحلقات العلم، أو لخطب العلماء المؤثرين ونشر الإسلام من جميع جوانبه أو البرامج الدعوية التي تعمّق الوعي الديني، بات أمرًا جليًا لا يمكن إغفاله.
ومن المشاهد البارزة كذلك، اللقاء الرسمي بين ترامب ورئيس النظام السوري أحمد الشرع، وما تلاه من إعلان ترامب رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا. إن احتضان الأنظمة العربية – التي تتخذ موقفًا متحفظًا للغاية من جماعة الإخوان المسلمين، وحركة حماس، وحركة النهضة – للرئيس السوري بهذه الطريقة، يعد مؤشراً على نوع المستقبل الذي يتم إنشاؤه لسوريا. ويبدو أن أحد الأهداف الرئيسة من ذلك هو منع تقارب محتمل بينه وبين تلك التيارات المصنفة ضمن "الإسلام السياسي". وفي هذا السياق يبقى التساؤل مطروحًا: ما طبيعة العلاقة التي ستنشأ بين الإدارة الأمريكية والنظام السوري الجديد مقابل رفع العقوبات؟ أو بالأحرى كيف سيُعيد النظام السوري تموضعه إزاء مطالب واشنطن وضغوطها؟ سنعرف إجابة هذه الأسئلة في المدى القريب.
وفي خضمّ كل هذه التطورات، من اللافت بشكل خاص تغييب القضايا الأساسية والحقيقية للمنطقة عن المشهد، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وتركيز الخليج بالكامل على "الرفاهية"، ووضع المكاسب الدنيوية والمنافع المتبادلة في صلب العلاقات متعددة الأبعاد مع أمريكا. ولعل الكلمة الأكثر تكرارًا في الإعلام العربي أثناء تناول هذه المرحلة كانت "الازدهار"، وهي الترجمة المباشرة لكلمة "prosperity" بالإنجليزية، والتي تحمل أيضا معنى الرفاه والنماء والرخاء والتطور. ولكن أي ازدهار هذا الذي يمكن تحقيقه في ظل تجاهل الأزمات الحقيقية التي تنخر في جسد المنطقة، أو التظاهر بعدم وجودها؟ لا سيما أن التاريخ يؤكد لنا أن الأزمات التي تؤجل ويتم تجاهلها، لا تلبث أن تنفجر في وجوه الجميع بشكل أكثر فتكا وتعقيدا.
إذا لم تبادر الدول الإسلامية، وعلى رأسها الدول الغنية، إلى وضع خطط واقعية لحلّ مشاكلها الحقيقية، وإذا لم تصب جهودها على معالجة جراح شعوبها، فإن هذا "الازدهار" الذي يُبشَّر به اليوم لن يكون سوى فوضى واضطراب. ومن لا يُصدّق، فليراجع صفحات التاريخ، ففيها العديد من العِبر.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة