وجه قبرص الآخر

08:511/06/2025, الأحد
تحديث: 1/06/2025, الأحد
طه كلينتش

لا أنسى تلك الأمسية أبدًا؛ ففي خريف عام 2008، وبينما كنتُ أجوب أرجاء قبرص بصحبة أخي العزيز براق بهادير بيلغين، قادتنا خطانا إلى مدينة ليفكي، كان العثور على مسجد مفتوح ونظيف بما يكفي لأداء الصلاة فيه مسألةً بالغة الصعوبة في قبرص. وعند اقتراب موعد صلاة المغرب، بدأنا نبحث عن مسجد، حتى لمحنا من بعيد مئذنةً تخترق الأفق، فاتجهنا بالسيارة نحوها دون تردد. وعندما وصلنا، كان ثمة رجلٌ في رِواق المسجد على وشك أن يكبِّر للصلاة. استوقفناه واقترحنا أن نصلي جماعةً، فوافق وقدّمني للإمامة. وبعد أن فرغنا من الصلاة،

لا أنسى تلك الأمسية أبدًا؛ ففي خريف عام 2008، وبينما كنتُ أجوب أرجاء قبرص بصحبة أخي العزيز براق بهادير بيلغين، قادتنا خطانا إلى مدينة ليفكي، كان العثور على مسجد مفتوح ونظيف بما يكفي لأداء الصلاة فيه مسألةً بالغة الصعوبة في قبرص. وعند اقتراب موعد صلاة المغرب، بدأنا نبحث عن مسجد، حتى لمحنا من بعيد مئذنةً تخترق الأفق، فاتجهنا بالسيارة نحوها دون تردد. وعندما وصلنا، كان ثمة رجلٌ في رِواق المسجد على وشك أن يكبِّر للصلاة. استوقفناه واقترحنا أن نصلي جماعةً، فوافق وقدّمني للإمامة. وبعد أن فرغنا من الصلاة، تبادلنا التعارف. سألنا من نكون، وما الذي نفعله في تلك الأنحاء، فأجبناه. ثم سألناه السؤال ذاته، فأجاب بكل بساطة وعفوية: "أنا مسؤول عن التكية". فسألناه: "تكية مَن؟" فردّ بالهدوء ذاته، مصحوبًا بدعوةٍ كريمة: "تكية الشيخ ناظم القبرصي. إنه خلف المسجد مباشرة، وستبدأ جلسته بعد قليل، إن كان لديكما وقت فمرحبًا بكما." وبالطبع، لم نكن لنفوّت فرصة لقاء استثنائي كهذا.

كنت قد سمعت كثيرًا عن الشيخ ناظم من قبل، وتابعت أسلوبه المميز من خلال شاشات التلفاز وعبر الصحف. وعندما كنت أدرس اللغة العربية في دمشق، كان مقام شيخه ومرشده، عبد الله الداغستاني، يقع أسفل منزلنا مباشرة، وكنا نزوره من وقتٍ لآخر. لذلك كانت لدي معرفة غير مباشرة بالشيخ ناظم، ولكن كانت هذه المرة الأولى التي أراه فيها شخصياً.

كانت التكية مثالاً حياً لتلك المشاهد التي اعتدنا القراءة عنها في كتب التصوف؛ فبعد وجبة متواضعة تناولها أناس من جميع الألوان والأعراق، وتشاركوا فيها الأكل من نفس الأطباق، انتقلنا إلى مصلى يستضيف نفس التنوع لحضور الدرس. دخل الشيخ ناظم بعد قليل مستنداً على ذراعي اثنين من مريديه، وأجلسوه على كرسي وُضع بالقرب من المحراب. وجدت أنا وصديقي مكاناً لأنفسنا وسط الحشد وجلسنا.

وعندما كان على وشك بدء الدرس، ألقى الشيخ ناظم نظراته الدقيقة والثاقبة على الحضور، ثم ركز نظره مباشرة عليّ، وأشار بإصبعه وسأل: "من أنت؟" ولكم أن تتخيلوا مقدار دهشتي. وبدلاً من الإجابة على سؤاله من مكاني، نهضت وذهبت إليه، وجلست عند كرسيه. وكان الحشد في المسجد وجميع المريدين يراقبون هذا المشهد بدهشة تفوق دهشتي نفسها.

وفي النصف ساعة التالية، استمر الشيخ ناظم في طرح الأسئلة عليّ، وكنتُ أجيب. دار بيننا حوار ثنائي تخلّله أحيانًا بعض الأسئلة الخاصة أو الطريفة التي أجبت عنها همسًا، بينما كان الحاضرون الذين أتوا للدرس يشاهدوننا. ومع حلول أذان العشاء وبدء الاستعداد للصلاة، كان الوقت المخصّص للمجلس قد انقضى بالكامل في حوارنا الثنائي، عندها ابتسم الشيخ ناظم وقال مازحًا: "من أين خرج لنا هذا الرجل؟" وعند الانصراف من المسجد، أمسكت بذراع الشيخ ناظم ورافقته، بعد أن أصبحت هذه المهمة من نصيبي.

حين كنت أقرأ كتاب الأستاذ الدكتور إسماعيل غولتش "أطلس قبرص الروحي" الصادر عن رئاسة أتراك المهجر والجاليات ذات الصلة، استوقفتني الصفحات (173–177) المخصصة للحديث عن "الشيخ ناظم الحقاني"، فاستعدت تلك الأمسية المدهشة من ذاكرتي بابتسامة لا إرادية. لقد أسهمت رحلتنا إلى قبرص عام 2008، كما يُجلي ذلك الدكتور إسماعيل عبر صفحات كتابه في تعريفنا بوجه قبرص "الآخر"، ذلك الوجه يتجلى في التكايا والأضرحة ويظهر جوانب مختلفة تمامًا من الجزيرة.

وقد أقام الأستاذ إسماعيل في قبرص بين عامي 2015 و2017 بصفته رئيسًا لجامعة قبرص للعلوم الاجتماعية، وهو مؤلف أكثر كتب الرحلات وأدلة السفر تفصيلاً عن الجزيرة باللغة التركية. وإلى جانب كتابه المذكور، يُعد كتابا "دليل نيقوسيا داخل الأسوار" و"دليل غازي ماغوسا" كنزًا معرفيًا حقيقيًا. ولا يسعني أيضًا أن أغفل الإشارة إلى كتيّبه بالغ الأهمية "دليل السفر إلى قبرص"، الذي أعدّه لمجلتنا "التاريخ العميق" عام 2022. ويكفي أن أنقل لكم هذا الرد الذي تلقيته من مجموعة من المعلمين الذين زاروا قبرص حاملين ذلك الكتيب الصغير القيم: "لم تُروَ لنا قبرص بهذه الطريقة أبدًا، ولم نرَ قبرص هكذا من قبل. لقد تأخرنا كثيرًا."

وللأسف قبرص التي ترسخت في أذهاننا فقط كوجهة ترفيهية وسياحية، هي في الحقيقة إحدى المحطات الرئيسة في خارطتنا التاريخية والروحية. وهذه النقطة بالتحديد هي ما يؤكده الأستاذ إسماعيل بإلحاح. وأثناء تقديم شكري العميق له لسدّه فراغًا كبيرًا في هذا المجال، أودّ أن أذكّر بأن من واجبنا جميعًا أن نتعرّف على "قبرص الأخرى"، قبرص الحقيقية، وأن نُعرّف بها العالم من حولنا.


#قبرص
#الإسلام
#الشيخ ناظم القبرصي
#التاريخ
#تركيا