تقع محافظة ريمة على بُعد حوالي200 كيلومتر جنوب غرب العاصمة اليمنية صنعاء، وهي منطقة جبلية وعرة وشديدة الانحدار وتقع على ارتفاع نحو 3 آلاف متر فوق مستوى سطح البحر، وتحيط بها جبال شاهقة. أما شرق ريمة، فتقل فيه حدة ارتفاع الجبال تدريجياً، لتبرز وديان خصبة حول مجاري الأنهار تصلح بشكل خاص لزراعة البن. ولكن أهل المنطقة قد تركوا زراعة البن منذ فترة طويلة، إذ أنهكتهم الأوضاع الاقتصادية المتدهورة بفعل الصراع الدائر في اليمن، فضلاً عن شح المياه المتزايد الذي أصبح عبئاً لا يُطاق.
تتميز السلفية، إحدى مدن شرق ريمة التي يبلغ عدد سكانها 80 ألف نسمة، بجمال طبيعتها وأراضيها الخصبة، بالإضافة إلى نخبة مميزة من أبنائها. ورغم الأزمات العديدة التي عصفت باليمن لعقود، إلا أن الحياة السياسية والدينية في السلفية كانت نابضة بالحياة. فمثلاً، كانت حركة الإصلاح، التي يمكن اعتبارها الفرع اليمني لجماعة الإخوان المسلمين، تتمتع بنفوذ قوي في هذه المدينة. كما ترسخت في مساجد السلفية تقاليد تدريس العلوم الإسلامية.
ولكن إذا أردنا تحري الدقة فإن البنية الاجتماعية والدينية التي كانت تميز السلفية قد لحقتها أضرار بالغة نتيجة الهجمات الممنهجة التي شنّها الحوثيون المدعومون من إيران. فمنذ أن سيطروا على صنعاء في 2014، بدؤوا بتنفيذ سلسلة من السياسات التي تهدف إلى تغيير النسيج الاجتماعي والديني والسياسي لليمن بشكل جذري. فاليمن الذي لم يعرف في تاريخه توترات مذهبية بين السنة والشيعة، والذي ظل بمنأى عن تصنيفات من قبيل "مسجد سني" أو "مسجد شيعي"، بل واحتضن المذهب الزيدي – وهو أقرب فرق الشيعة إلى أهل السنة وأكثرها اعتدالًا – وجد نفسه، ابتداءً من 2014، في قلب نزاعات مذهبية وصراعات طائفية مستجدة.
وفي مساء يوم الثلاثاء الموافق 1 يوليو 2025، قُتل أحد أبرز علماء مدينة السلفية، والقيادي البارز في حركة الإصلاح، الشيخ صالح حنتوش عن عمر يناهز 70 عامًا، في عملية اغتيال نفّذت عبر مداهمة مسلحة استهدفت منزله. وأفاد شهود عيان بأن الحيّ الذي يقع فيه منزل الشيخ حنتوش ظلّ لساعات تحت حصار محكم، وأن الهجوم استهدف أيضًا أفراد عائلته، كما أُضرِمَت النيران في المنزل بعد تنفيذ عملية الاغتيال. أما المشاهد التي تم تداولها لاحقًا، فقد كشفت عن عملية نهب وحشية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
وقد نشر مقربون من الشيخ صالح حنتوش تسجيلاً صوتيًا له، قالوا إنه سُجِّل قبيل استشهاده، أشار فيه إلى أن المسجد الذي أسّسه لتعليم القرآن الكريم وتدريس الطلاب قد أُغلق بأمر من الحوثيين، وأنه كان يعلم أن حياته ستُستهدف قريبًا جدًا. وللأسف، أثبت الهجوم الدموي الذي شهدته السلفية مساء الثلاثاء صحة ما توقّعه الشيخ.
ما جرى للشيخ صالح حنتوش يُجسّد بشكل مأساوي ما تتعرض له الهوية التاريخية والدينية العريقة لأرض إسلامية عريقة من تدمير متدرج وممنهج. فالحوثيون الذين يسعون إلى استقطاب الزيديين المعتدلين ضمن الإطار الأيديولوجي الإيراني وتحويلهم إلى متشددين، يتلاعبون بالمنظومة الثقافية والاجتماعية لليمن تحت غطاء شعارات براقة من قبيل "مواجهة إسرائيل" وكل ذلك يتم في صمت تام، بعيدًا عن أعين العالم.
ولأن العالم الإسلامي غارق في أزمات متراكمة وكوارث مستعصية، فقد تراجعت قضية اليمن إلى الخلف، خارج نطاق الاهتمام الإعلامي والسياسي. كما أن الحركات السياسية مثل حركة الإصلاح، يجري تصنيفها في العديد من العواصم العربية ضمن ما يُعرف بـ"الإسلام السياسي"، لتُهمّش وتُستبعد من المشهد، وهو ما ساهم في تعميق العزلة التي يعانيها سُنة اليمن في مواجهة هجمات الحوثيين ومضايقاتهم. وإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أن ما يغيب عن العيون يغيب عن القلوب، ندرك أن ما يجري في العمق اليمني لم يعد موضع نقاش، بل بات من العسير حتى تخيّله أو استحضاره.
أما عن سبب اختياري تسليط الضوء على هذه القضية في هذا المقال؛ فأنا أؤمن بأن الكتابة هي شكل من أشكال الشهادة على العصر، ولهذا أُحاول توثيق ما نمرّ به، ونقله إلى الأجيال اللاحقة، لعلّ من ينظر في المستقبل إلى هذه الأيام يسعى لفهمها بعمق، وربما يجد في هذا التوثيق دليلاً يُنير له الطريق أو يُنذره من السقوط في بعض المستنقعات التي غرقنا نحن فيها.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة