سهولة الدخول وصعوبة الخروج من أفغانستان.. طالبان بين اتهامها بالقومية البشتونية وقدرتها على حل الأزمات المستعصية

08:0310/08/2025, Pazar
تحديث: 10/08/2025, Pazar
ياسين اكتاي

تمتلك حركة طالبان، التي تدير تحكم أفغانستان اليوم، خبرة تمتد لـ 48 عامًا في الدفاع عن الوطن. إنها خبرة صاغتها التضحيات الجسام، والشهداء، والمحاربون القدامى، والتحركات الإستراتيجية والتكتيكية، والصبر والثبات. فما هي المشاعر والأفكار، أو كما عبَّر ابن خلدون، ما هي العصبية التي حركت هؤلاء الأشخاص الذين دفعوا روسيا ثم الولايات المتحدة للندم ألف مرة على مجيئهم إلى أفغانستان، متصرفين بوعي راسخ بالاستقلال لا يقبل المساومة؟ لا شك أنه كلما تعمق المرء في معرفتهم، يتضح أن هذا الدافع ديني بامتياز، في أكثر أشكاله

تمتلك حركة طالبان، التي تدير تحكم أفغانستان اليوم، خبرة تمتد لـ 48 عامًا في الدفاع عن الوطن. إنها خبرة صاغتها التضحيات الجسام، والشهداء، والمحاربون القدامى، والتحركات الإستراتيجية والتكتيكية، والصبر والثبات. فما هي المشاعر والأفكار، أو كما عبَّر ابن خلدون، ما هي العصبية التي حركت هؤلاء الأشخاص الذين دفعوا روسيا ثم الولايات المتحدة للندم ألف مرة على مجيئهم إلى أفغانستان، متصرفين بوعي راسخ بالاستقلال لا يقبل المساومة؟ لا شك أنه كلما تعمق المرء في معرفتهم، يتضح أن هذا الدافع ديني بامتياز، في أكثر أشكاله أصالة، غير ملوّث بعقلية العصر الحديث أو محركات أيديولوجية.

لقد قالوا لأعدائهم في كل مناسبة ما قاله "أسد ليبيا" عمر المختار للقائد الإيطالي الذي أسره قبل 95 عامًا: "ديننا يأمرنا بقتالكم، لأنكم محتلون وتسعون لفرض فسادكم على أرض المسلمين. تقولون إننا لن ننتصر في هذه الحرب لأنكم قوة عظمى، ولكن بالنسبة لنا، النصر أو الهزيمة ليس قرارًا نملكه. سنقاتلكم حتى لو استمر القتال لمائة عام. فإذا استطعتم تحمل ذلك، فابقوا هنا، ولكن مهما طال بقاؤكم، لن تتمكنوا من هزيمتنا".

إن ثبات طالبان في موقفها كان كفيلاً بإرهاق القوات الأمريكية وقوات الناتو خلال فترة وجيزة، فسرعان ما أصبحوا غير قادرين على تجاوز مناطق معينة في كابل، وبدأوا يبحثون منذ وقت مبكر عن سبل للانسحاب، ورغم أن طالبان، وهي مجموعة من "طلاب العلم" كما يوحي اسمها، قد أرعبت الولايات المتحدة بتكتيكاتها الحربية وإنجازاتها الباهرة، إلا أن وصمهم بالجهل يُعد تصورًا وموقفًا شائعًا. إن طالبان التي ينتقدها البعض، استطاعت في فترة وجيزة حل مشكلة المخدرات التي عجزت كل القوى العالمية عن حلها، وأرست سلامًا اجتماعيًا لم يسبق له مثيل، وحققت مستوى من الأمن في جميع أنحاء البلاد لم تشهده أفغانستان تاريخها سابقا، وقد تحققنا مرارًا من هذه المعلومات عبر قنوات مختلفة، ولأول مرة منذ خمسين عامًا يمكن السفر بحرية وأمان في جميع أنحاء البلاد دون التعرض لأي تهديد أمني.

ولكن حين نقول هذا، لا ندعي أن أفغانستان قد حلت جميع مشاكلها التاريخية والثقافية، أو أنها تحولت إلى دولة متقدمة وحديثة. ما نود إبرازه هو أن "إمارة أفغانستان الإسلامية" تمكنت خلال فترة وجيزة، من معالجة مشكلات جسيمة استعصى حلها على غيرها، وقدمت في هذا الصدد أداءً استثنائياً.

كانت حركة طالبان، طوال عشرين عامًا، تخوض حربًا ضد قوات الاحتلال في الجبال أو تحت الأرض، وتبدي مقاومةً شرسة في ظروف بالغة الصعوبة. وخلال تلك الفترة لم يكن لديها أي إمكانية لتأهيل كوادر تمتلك الخبرة الكافية لإدارة الدولة التي تسلمتها لاحقاً بمستوى احترافي عالٍ، ولم يكن ذلك ممكنًا أصلًا. ولهذا، تواجه الآن صعوبات ملحوظة حتى في أبسط ملفات الإدارة الحكومية، ولم تتمكن بعد من تنظيم جهاز بيروقراطي كامل قادر على إدارة شؤون الدولة بكفاءة. ورغم ذلك، فإن هذا النقص في الوقت الراهن يمنحها ميزة سرعة الحركة، إذ يتيح لها إنجاز الكثير من المهام مباشرةً، دون المرور بإجراءات بيروقراطية معقدة، في مرحلة تأسيسية تحتاج فيها البلاد إلى حلول عاجلة لكثير من المشاكل التي تنتظر الحل.

وفي شوارع وأزقة مدينة كابل، يلاحظ المرء نظافة غير معهودة في أي بلد شرقي آخر، ما يعكس كفاءة إدارة البلدية. وعند الاستفسار، اتضح أن هذا أيضا أحد الإنجازات التي تحمل بصمة طالبان؛ ففي السابق، كانت أعمال النظافة التي تتم بعقود ذات مبالغ ضخمة، تخلّف وراءها أكواماً من القمامة والتلوث. أما الآن، فقد تحققت نظافة كابل بتكاليف زهيدة مقارنة بالمبالغ السابقة. وكذلك تسارعت وتيرة إنجاز مشروعات الطرق والبنية التحتية التي كانت متوقفة منذ زمن طويل أو لم تُنفَّذ أصلا.

والأهم من ذلك كله هو الاستقرار الاقتصادي الذي تحقق في البلاد خلال أربع سنوات. فحين تسلمت "إمارة أفغانستان الإسلامية" السلطة، كان سعر صرف الدولار 130 أفغانيًا، ليتراجع في فترة وجيزة إلى نحو 65-70 أفغانيًا، وما زال مستقرًا عند هذا المستوى، فيما أصبح معدل التضخم شبه معدوم. وقد أكد وزير الخارجية، أمير خان متقي، في لقائنا أن أفغانستان أصبحت أرخص دولة في العالم.

وخلال لقائنا مع وزير التجارة نور الدين عزيزي، وُجهت إليه أسئلة حول كيفية نجاحهم في خفض سعر الدولار والحفاظ على استقراره عند مستواه الحالي، وكذلك عن كيفية إعادة إنعاش الاقتصاد رغم العقوبات الكثيفة وفوضى ما بعد الحرب. وقدّم الوزير تحليلًا لافتًا مصحوبًا بمعلومات مهمة حيث قال: 1ـ أوقفنا التعاملات التجارية بالدولار. 2ـ كانت نحو 90% من المعاملات في السوق تُجرى بالدولار، أما اليوم فإن 95% منها تتم بالعملة المحلية. 3ـ أخرجنا النقد الأجنبي من دائرة المضاربة، فلم يعد أحد قادرًا على استهداف العملة الأفغانية من خلال المضاربات بالدولار. 4ـ والأهم أننا قضينا تمامًا على الفساد، وخفّضنا الإنفاق العام إلى أدنى مستوى ممكن. وبهذا، أصبح بالإمكان حل مشكلات مستعصية كانت تتطلب سابقًا ميزانيات ضخمة، كما أُطلقت العديد من المشاريع الجديدة.

إن الأمثلة التي قدمها الوزير فيما يتعلق بالنقطة الأخيرة تُشكل مثالًا آخر على "سياسة المستحيل" التي تنتهجها طالبان كما ذكرنا سابقًا. ففي الماضي لم يكن راتب ومصاريف حاكم الولاية تقل عن 40-50 ألف دولار، وكان يتنقل في موكب يضم 20 سيارة. أما الآن، فيذهب الحاكم إلى عمله بمفرده في سيارته الخاصة، بل إن هناك من يذهب بالدراجة الهوائية، وراتبه لا يتعدى 1000 دولار. والعديد من كبار المسؤولين يتناولون وجبة الغداء التي يحضرونها من منازلهم في حافظات الطعام.

في الحقيقة، فإن حياة زعيم أفغانستان، هيبت الله أخوند زاده، الذي لم يأتِ إلى العاصمة كابل ليجلس على عرش الدولة، بل فضَّل الإقامة في قندهار، في مدرسته الخاصة، بعيدًا عن الأضواء والبذخ، تُعد نموذجًا صارخاً على طريقة تفكير طالبان ونظرتهم للحياة. فهم لا ينظرون إلى الحكم على أنه امتياز أو مكسب، بل مسؤولية روحية عظيمة تُثقل كاهلهم. ويبدو أن الجمع بين الدولة والأخلاق، الذي بدا مستحيلاً، قد أصبح ممكنًا في ظل هذا النهج.

والجدير بالذكر أن وزير التجارة ينحدر من أصول طاجيكية، ويشغل موقعًا مهمًا داخل حركة طالبان. ويُقدم نفسه مثالًا للرد على من يتهمون طالبان بأنها تتبنى نزعة قومية بشتونية، مشيرًا في الوقت ذاته إلى عدد من الشخصيات البارزة في هرم الدولة من غير البشتون، ومن بينهم نائب رئيس الوزراء الأوزبكي عبد السلام حنفي. وتشكّل هذه الحقائق دحضًا واضحًا لادعاءات بعض الشخصيات، مثل رشيد دوستم، الذي يزعم تمثيل الأوزبك، والذي لا يُذكر اسمه إلا مقترنًا بجرائم الحرب التي ارتكبها، وكذلك لمن ينسجون أحلامهم من خلاله. فدوستم، الذي يحاول أن يصنع لنفسه دورًا سياسيًا عبر اتهام طالبان بالنزعة القومية البشتونية، لا يحظى بأي وزن شعبي، كما أن سياسة طالبان لا تقوم على إقصاء المكونات الأخرى أو تفضيل البشتون على غيرهم. ما يدّعي أمثاله. ويؤكد عزيزي أن الإمارة الإسلامية في هذا الأمرتراعي في هذا الصدد أحكام الشريعة الإسلامية، فتعتبر جميع المؤمنين إخوة، وترى في شعب أفغانستان كيانًا واحدًا متكاملًا، وتوزَّع المناصب على أساس الكفاءة والأهلية لا على الانتماء العرقي أو القبلي.

ومن الطبيعي في بلد يشكل فيه البشتون الأغلبية ويُعدّون الثقافة والمكوّن المهيمن أن يكون لهم حضور قوي في إدارة الدولة. لكن الخط الفاصل بين ذلك وبين التعصب الإقصائي هو ما يغيّر المعادلة، إلا أن طالبان، كما في قضايا أخرى، تتجنب المبالغة في الدفاع عن نفسها أو ترويج مواقفها بهذا الشأن، مكتفية بتطبيق سياسات عملية تُظهر فارقًا جوهريًا عن النماذج الإقصائية المعتادة.


#أفغانستان
#طالبان
#سياسة المستحيل