ثمّة حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن الخطابات والسياسات المعادية للإسلام في تركيا تتّسم بقدر من الفجاجة والعدوانية والكراهية تفوق مثيلاتها في الغرب. وقد يبدو هذا الواقع صادماً للوهلة الأولى، غير أنّه يستدعي وقفة تأمل عميقة: فحقيقة أن بلد يحمل أهله أسماء إسلامية، وكان لقرون مركزاً للعالم الإسلامي، بات قادراً في بعض خطاباته المعادية للإسلام أن يتجاوز العالم الغربي الصليبي الصهيوني، هي حقيقة لا بدّ لنا أن نواجهها.
ولا شك أن هذه المواجهة ستتحول حتمًا إلى مساءلة، بل وحتى إلى محاكمة. فقد استمرّ حظر الحجاب في تركيا لسنوات طويلة بوصفه ممارسة طبيعية، وتمّ تبريره تارة باعتباره "رمزاً سياسياً"، وتارةً أخرى بوصفه "رمزاً دينياً"، وأحيانا بحجّة "العلمانية"، وبمختلفِ المبرّرات، غير أن هذا الحظر فُرض علناً على المسلمين، دون اكتراث لمشاعرهم أو احترام معتقداتهم .
وفي حين أن مجرد النظر بعين الريبة إلى الحجاب في أي مكان في العالم يُعد دليلاً قاطعاً على العداء للإسلام، رأينا في تركيا –تحت ستار هوسٍ علمانيٍ غريب– سياسيين كباراً، وأكاديميين، وصحفيين، ونخباً مثقفة يدافعون عن هذا الحظر وكأنه سلوك طبيعي. أما المسلمون في ذلك الوقت، فقد لاذوا بالصمت، إمّا بدافع اللين والكياسة، أو لعدم تعميق الجدل، أو خشية الاصطدام بالثقافة الاستبدادية التي شكّلت الخلفية الأيديولوجية لهذا الحظر. فلم يسمّوا الأمور بأسمائها، ولم يعلنوا بوضوح أنّ حظر الحجاب هو شكلٌ مباشر من أشكال العداء للإسلام، وأن مجرد التفكير في حظر الحجاب لا يصدر عن إنسان مسلم، بل عن شخص لديه مشكلة جوهرية مع هذه الأرض وهذا الوطن. ولم يقل أحد حينها إن فرض مثل هذا الحظر لا يمكن أن يتصوره أو ينفّذه سوى محتل غريب دخيل على هذه البلاد.
وقبل ظهور قضية الحجاب، سبقها تدنيسٌ للعديد من قيم الإسلام ورموزه وشعاراته ومفاهيمه الأخرى. فمثلًا، كان تغيير الأبجدية مدفوعًا بأسباب لا علاقة لها بالإسلام، حيث زعموا أنه لزيادة معدلات القراءة والكتابة، وأن الأبجدية العربية صعبة، ولا تعكس بنية اللغة التركية بقوة مثل اللاتينية. وليت الأمر توقف عند هذه المبررات، لكنهم سرعان ما شرعوا في غرس عبارات مسيئة عن العربية في أذهان أطفالنا الصغار. فلم تعد الكتابة العربية صعبة فحسب، بل أصبحت بدائية، وأبجدية متخلفة لمجتمع رجعي غارق في الظلام. فمتى سيعلم هؤلاء الأطفال أن العربية واحدة من أقوى لغات العالم، وأنها ظلت لغة العلم والأدب والفلسفة تحت ظل حضارات عظيمة على مدى أربعة عشر قرنًا؟ ومن المفاهيم التي تم تدنيسها أيضًا مفهوم "الأمة". فبعد أن أصبحنا "قوميين"، بات مفهوم "الأمة" شيئًا ضارًا. ذلك المفهوم الذي حافظ على القوة العالمية للأتراك العثمانيين والسلاجقة عبر ثلاثة قارات لقرون، تحول فجأة إلى تصور ضار بمجرد أن أصبحنا قوميين. لماذا؟ هل كانت الأمة هي سبب حصرنا في مساحة 781 ألف كيلومتر مربع بعد أن كنا منتشرين عبر ثلاث قارات؟ هل كانت الأمّة عائقًا وضررا أم كانت تجسيدًا لأسمى أشكال الأخوّة بين العرب والأتراك والأكراد؟
دعونا نضع جانبًا منطق الربح والخسارة. فحين نقيّم الأمر من هذه الزاوية؛ كلما ابتعدنا عن كوننا أمة، صغرنا وضعفنا وفقدنا مكانتنا. هذه حقيقة واضحة لا لبس فيها.
لكن هناك بُعد آخر للقضية يتعلق بالإسلام. لقد نسينا أن تحولنا من الأمة إلى "القومية" كان نتيجة هزيمة، ثم بنينا وعينا القومي بالكامل على أساس شتم الأمة. ولم يواجه أحد هؤلاء القوميين بحقيقة أن الطعن في الأمة، والحطّ من شأن هذا المفهوم، إنما هو في حقيقته طعن في الإسلام ذاته، وعداء صريح له.
فالمسلمون كالجسد الواحد "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى" والمسلم التركي الذي ينتمي إلى الأمة يشعر من أعماق قلبه بألم الكردي حين يُصاب بمصيبة، وكذلك الكردي الذي ينتمي إلى الأمة لا يرى نفسه منفصلاً عن العرب، ولا العربي يرى نفسه بمنأى عن الأكراد أو الأتراك. أما الذين لا ينتمون إلى الأمة، فأنّى لهم أن يدركوا هذا المعنى؟
ولمن يظنّ أن الانتماء إلى الأمة مجرّد خيار أيديولوجي بسيط نقول: إن سورة الفاتحة، أول سورة في كتاب الله والتي يتلوها كل مسلم يوميًا مرارًا وتكرارًا، يخاطب المسلمون ربهم بقولهم: {إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم}. وحتى عندما يُصلّون منفردين، يخاطبون الله بصيغة الجمع: "نعبد"، "نستعين"، "اهدنا". فمسلمٌ يخاطب ربّه بصيغة الجمع التي تشمل الأمة كلّها، لا يمكن أن يرى "الأمة" مجرّد مفهوم نظري أو خيالي، أو خيارًا أيديولوجياً يمكن التخلي عنه. بل هي شرط أساسي في علاقته بالله عز وجل. كل مسلم جزء من الأمة الإسلامية، ومن لا يحمل هذا الوعي، فلا يستحق أن يُسمّى مسلمًا.
ومؤخرًا، أطلق زعيم حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزال، تصريحًا غريبًا ردًّا على خطاب الرئيس أردوغان في قزلجه حمام، والذي تحدّث فيه عن أخوّة الأتراك والعرب والأكراد، حيث قال أوزال: "لن نسمح لك بممارسة سياسة الأمة". وهو تصريح بالغ السوء، يعكس استمرار العادة القديمة المتمثلة في إهانة أقدس القيم لدى المسلمين في عقر دارهم. ولعل هذا الخطاب المقيت موروث من الاستبداد القومي الضيق والمتعصب أيديولوجيًا والذي تَشكَّل في عهد الحزب الواحد. لكن هذا الخطاب لم يعد مقبولًا اليوم، فتركيا لم تعد بلدًا يُمكن فيه التعدّي على معتقدات المسلمين أو عدم احترام قيمهم ومفاهيمهم الدينية بهذا القدر من الجرأة. إن مفهوم "الأمة" لا يُمكن أن يُعبَّر عنه بهذه النبرة الازدرائية في بلد إسلامي إلا من قبل محتل.
والأمر اللافت أن الرئيس أردوغان لم يأتِ أصلًا على ذكر مفهوم "الأمة" في خطابه المذكور في قزلجه حمام. وبغض النظر عن هذه النظرة السلبية تجاه مفهوم أساسي من مفاهيم الإسلام، فإن ربط الحديث عن "أخوّة الشعوب" بمفهوم الأمة وتحويله إلى تهمة يُراد النيل بها، يدلّ بوضوح على مدى حساسية الرادارات المعادية للإسلام.
ولكن السؤال المطروح: مَن الذي يخاف من وحدة المسلمين وتآزرهم وتوحيدهم لصفوفهم وحبّهم لبعضهم البعض كالإخوة؟ وما الضرر الذي يمكن تُلحقه هذه الوحدة وهذا التقارب بهم؟ بالطبع هناك من يشعر بالتهديد من هذا الواقع، ويرى فيه خطراً عليه. ولكن ما صلة هؤلاء بتركيا أصلاً؟
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة