"الخط الأحمر" هو حد يجب ألا يُتجاوز، وأحيانا يكون مجرّد علامة تُرسم فوق شيءٍ ما لإلغائه وشطبه. تداولت وسائل الإعلام مؤخرًا أن أحد شروط تل أبيب التي طرحتها على واشنطن بخصوص أي اتفاق محتمل بين سوريا وإسرائيل هو "الانسحاب الكامل للوجود العسكري التركي من سوريا". وبغض النظر عن مدى صحة هذا الخبر، فإنه أمر غير وارد، والحديث عن شيء آخر. ولن يحدث شيء كهذا.
وحتى وإن كانت إسرائيل قد صرّحت بذلك، فإن التطورات التي أعقبت ذلك بساعات قليلة كانت معاكسة تمامًا.
أولاً: جاءت "النصيحة" التي وجهها السفير الأميركي والمبعوث الخاص إلى سوريا، توم باراك، إلى دمشق: "على الشرع أن يتلقى الدعم". والجهة المعنية بهذه التوصية هي تركيا.
ثانيًا: أعلنت وزارة الدفاع التركية أن "سوريا طلبت دعما رسميا من أنقرة لتعزيز قدراتها الدفاعية ومكافحة التنظيمات الإرهابية،وعلى رأسها داعش".
من الواضح تمامًا أن اتفاقًا للتعاون العسكري بين أنقرة ودمشق بات يلوح في الأفق، وسيُوضع في إطار واسع وشامل قدر الإمكان.
في الحقيقة، كانت العلاقات العسكرية بين أنقرة ودمشق وثيقة دائمًا منذ تولي إدارة الشرع للسلطة، وهذا طبيعي للغاية. ومع أننا ندرك هذه الحقيقة البسيطة، إلا أننا كثيراً ما نتجاهلها: الجيش التركي موجود فعلياً في سوريا، والتخلي عن وجوده هناك أشبه بعودة في الزمن إلى الوراء.
ثالثاً: تصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان: "إسرائيل تسعى إلى تقسيم سوريا. وإذا مضيتم في طريق تقسيم سوريا وزعزعة استقرارها، فإننا سنعتبر ذلك تهديدًا مباشرًا لأمننا القومي، وسنتدخل".
لم يعد هناك مجال للكلام بعد الآن، كما أنه من غير المنطقي أن نتوقع أن يكون تدخلنا عبر أساليب ناعمة أو ضعيفة. فالصورة باتت واضحة جدًا. وكما أوضحنا في مقال سابق، لم تعد سوريا بالنسبة لتركيا مسألة يمكن التغاضي أو التخلي عنها بسهولة. لذلك من الغريب جدًا أن تستمر بعض الآراء التي تتساءل "ما شأننا بسوريا؟"، رغم أن مثل هذه النظرة قديمة ومتهالكة، وكان يجب التخلي عنها منذ زمن، لكنها للأسف ما زالت تظهر بشكل جديد ومُجمّل.
إن هذا النهج يرغب في فشل تركيا داخل الساحة السورية. وبما أن هؤلاء لا يستطيعون الإفصاح عن ذلك، فإنهم يحيطونها بكمٍّ كبير من "التحذيرات المتكررة". من قبيل: "إياكم والوقوع في الفخاخ"، "لا تتوغلوا أكثر"، "تجنبوا الحركات المحفوفة بالمخاطر"، "لا تدخلوا في صراع مع إسرائيل"... كلها نصائح يُمكن لأي عقل محدود أن يرددها بلا توقف. والأسوأ من ذلك، أن هذه النصائح تُطلق رغم يقين الجميع بأن أنقرة تأخذها بعين الاعتبار وتزنها بدقة، مما يجعلها أشبه بدعوة مبطّنة إلى "التباطؤ"، بل ربما دعوات صامتة إلى التردد وتوقف تركيا عن التقدّم.
وحين يُسأل أصحاب هذه المخاوف المكررة: "ما هي بالضبط هذه المصائد والمخاطر؟ أو ماذا كان بإمكانكم أن تفعلوا غير ذلك؟"، يعجزون عن تقديم إجابة واضحة واحدة. فلا يبقى سوى الضجيج، وإذا حدث خلل ما، سيسارعون إلى القول: "ألم نقل لكم؟". هذه هي طبيعة الشرق الأوسط، لاعبوه ليسوا من الهواة، والمفاجآت واردة. ومع ذلك، فإن ما يأملونه لن يتحقق.
نحن نحاول أن نشرح ذلك مرارًا وتكرارًا. ولكن حين يتحول "عدم الفهم" إلى سياسة، يصبح الكلام عديم الجدوى مهما تكرر.
ومع ذلك... سنواصل المحاولة.
أولًا: لا وجود لحركة خالية من المخاطر في هذه المنطقة. وفي الحقيقة لم يعد ثمة فعل في هذا العالم لا ينطوي على مخاطرة. هذه هي سِمة المرحلة الراهنة.
ثانيًا: يمكنك تشبيه الأمر بالموضة أو الديكور، فتركيا تُحيك "بدلة" أنيقة متكاملة. لكنها ليست شيئًا يمكن تغييره إذا لم ينجح، فإذا تمزق جزء منها أو انقطع، فسيُخاط أو يُرمم.
العراق، وسوريا، ودول الخليج، وفلسطين، وحوض بحر قزوين، وأذربيجان والدول التركية الأخرى، باكستان، والبحر الأسود، هذه كلها هي الحلقة الأولى. تُؤخذ ديناميكيات هذه المناطق وتُدمج في إطار عالمي متناغم. "أين إيران وروسيا؟" بالطبع حاضرتان؛ كلتاهما كانتا في إسطنبول بالأمس.
الولايات المتحدة هنا أيضًا، وكذلك بريطانيا. وسياسات هاتين القوتين تتماشى حاليًا مع سياسات أنقرة. وإن قلتَ: "لن نتعاون مطلقًا مع أمريكا أو بريطانيا"، وكان هذا قرارك، فلا مشكلة لدي. لكن هذا موضوع آخر. أنا أعرض الصورة الكبيرة فقط. وأرسم صورة بانورامية واحدة من مئات اللقطات المتتالية. هذا هو الواقع الحالي.
إن تصريحات كل من ترامب والسفير باراك، التي تربط سوريا وتركيا بمحور واحد، تسير في هذا الاتجاه. ليست سياسة مؤلفة من بند واحد. والموافقة على بيع طائرات يوروفايتر لتركيا لا تختلف عن ذلك. وصور وزيري الدفاع البريطاني والتركي هي واحدة من تلك اللقطات، والتوقيع المشترك على خطاب النوايا بين ألمانيا وفرنسا وبريطانيا أيضًا من نفس السياق. وكذلك خطوات الاتحاد الأوروبي فيما يخص اتفاقية "شنغن"، أو التوتر بين أذربيجان وروسيا، ودور تركيا كطرف محوري في الحرب الأوكرانية والأزمة الإيرانية. بل أكثر من ذلك، زيارات مسؤولي وزارة الخزانة الأمريكية ولقاءاتهم مع مسؤولين حكوميين ومؤسسات مالية ضمن مثلث تركيا والعراق وسوريا، كل هذا يصب في السياق ذاته.
وكذلك الملف الإيراني، وزيارة المسؤولين السعوديين إلى دمشق وإعلانهم استثمار أربعة مليارات دولار، وإلغاء اتفاقية خط أنابيب كركوك يومورتاليك التي دامت 53 عامًا والتحضير لاتفاقية جديدة، كل هذه الأمور ضمن نفس السياق.
وانظروا إلى باريس؛ فهي تشارك في الاجتماع بين دمشق والولايات المتحدة و"قسد"/واي بي جي" وفي الوقت نفسه تعلن نيتها الاعتراف بدولة فلسطين، وتقول لندن إن هذا "قرار صائب"، كلها من مقص الخياط نفسه.
لا يزال قماش “البدلة” يُفصّل. وفي هذه المرحلة، إذا شُغلنا بربطة العنق، أو المنديل، أو الجورب، أو الأزرار، تعقّد الأمر. أما ميزة تركيا اليوم ـ ولعلها لأول مرة في تاريخها ـ فهي أنها تمسك بطباشير الخياط.
وإلا، فأنا أيضًا لدي تحفظاتي على بعض النقاط التي ذكرتها أعلاه. دعونا لا نخرج عن الموضوع، لكن على سبيل المثال، ينبغي مناقشة صفقة مقاتلات يوروفايتر من حيث أبعادها الفنية، ودرجة الحاجة إليها، وكيفية تقديمها للرأي العام.
ولكن يظل القماش والبدلة أكثر أهمية. وهناك عامل الزمن، فلا وقت نضيّعه. ففي ظل عمليات القصّ والخياطة الواسعة هذه، أي تغيير في معادلات واشنطن كفيل بإهدار القماش بأكمله. لذلك، يجب أن تُخاط الغرز بسرعة، وباستخدام "الكشتبان".
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة