
في غزة، لا تُزهق الأرواح فحسب، بل تُمحى أيضًا صرخات الأمهات اللواتي يدفن أبناءهن، إذ لا تصمد مقاطع الفيديو التي تنقل مآسيهن سوى بضع ساعات قبل أن تُزال من المنصات.
والسبب في ذلك أن صور الدمار الهائل، ومشاهد الضحايا المدنيين، والأطفال المنتشلين من تحت الركام في المدينة المحاصرة، تُصنَّف من قِبل خوارزميات “يوتيوب” على أنّها انتهاك لـ“سياسات المجتمع”، أو تُحذف بذريعة أنّها "محتوى غير مُصرّح به".
وبصريح العبارة: إنّ الأدلة المرئية على الحقيقة، وعلى جريمة الإبادة الجماعية تُزال عمدًا من قبل "يوتيوب" الذي يبلغ عدد مستخدميه المليارات.
وهذا لا يقتصر على كونه مسألة "رقابة"، بل شكل جديد من أشكال الحرب يستهدف "ذاكرة" الإنسانية. فإسرائيل، التي لم تعد قادرة على التحكم في الإدراك العام، ولم تستطع الوقوف أمام الحقيقة، وتكبدت خسائر فادحة على جبهات متعددة بسبب تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، تنقل الحرب التي شنتها على الإنسانية إلى جبهات غير مرئية في الفضاء الرقمي في محاولة لاستعادة السيطرة.
وتُعرف الاستراتيجية الدعائية الدولية التي ينتهجها الصهاينة منذ سنوات باسم "الهاسبارا"، وكانت تُدار حتى وقت قريب عبر المؤسسات الإعلامية والخطابات الدبلوماسية واللوبيات. أما منذ السابع من أكتوبر، فقد خضع المحتوى المتعلق بفلسطين للرقابة أو الحد من انتشاره، أوالتلاعب به على منصات مثل جوجل ويوتيوب وإنستغرام. أي إنّ إسرائيل نقلت استراتيجيتها القائمة على "إعادة تشكيل المجتمعات عبر الإعلام" إلى المجال الرقمي. فالهاسبارا لم تعد تُبث على شاشات التلفزيون، بل تُمارَس الآن في شريط بحث "جوجل"، حيث تُسحق كل كلمة تتحدث عن فلسطين بواسطة الخوارزميات.
ويُعدّ "يوتيوب" أحد أهم أذرع منظومة "جوجل". وبحذفه الممنهج لمقاطع الفيديو التي توثّق ما يحدث في غزة، إنما يطمس أدلة الإبادة الجماعية، وهذا هو هدفهم بالضبط. فقبل عشرين عامًا فقط، أُنشئت هذه المنصات الرقمية بدعوى "ربط العالم ببعضه" و"توسيع أفق حرية التعبير"، أما اليوم، فقد باتت هي من يقرر من يحق له التحدث ومن يجب إسكاته.
تحت رحمة الخوارزميات
وإذا كنت تتساءل عمّا حدث، فإليك القصة بإيجاز: في صباح الثالث من أكتوبر، أُغلق حساب منظمة "الحق"، وهي من أقدم منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية، على منصة يوتيوب عبر رسالةٍ إلكترونية واحدة فقط، لم تتضمّن سوى ملاحظة تقول: "لقد انتهكتم إرشاداتالمجتمع لدينا" دون أيّ توضيح إضافي. وفي الوقت نفسه تقريبًا، أزال "يوتيوب" عشرات مقاطع الفيديو التي توثّق استهداف المدنيين في غزة. كما لقيت قناتا المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ومؤسسة الميزان لحقوق الإنسان في غزة المصير ذاته. والقاسم المشترك بين جميع المواد المحذوفة هو أنها كانت تُوثّق جرائم الحرب الإسرائيلية.
بعض تلك المقاطع أظهر فرق الدفاع المدني وهي تبحث بين أنقاض المنازل المهدّمة، وبعضها الآخر صوّر أطفالًا يبكون في أروقة المستشفيات. جميعها أُخفيت تحت ذريعة أنها "تحتوي على مشاهد عنف" أو "تخالف معايير النشر".
غير أنّ هذه المقاطع كانت تعد من أهم الأدلة التي جمعتها هيئات مدنية مثل محكمة غزة، والتي يُفترض أن تُشكّل جزءًا من الملفات التي ستُعرض أمام الهيئات القضائية الدولية في المستقبل. ورغم أنّ هذه الأدلة كانت قابلة للإدراج ضمن تقارير الأمم المتحدة حول المساءلة القانونية، فقد جرى حذفها في ثوانٍ معدودة. أما المتحدث باسم "يوتيوب"، فقد حاول تبرير هذا الفعل بوقاحة لا تقل عن وقاحة الضباط الإسرائيليين المتورطين في المجازر، قائلًا: "تلتزم غوغل بالقوانين الأميركية الخاصة بالعقوبات والتجارة"، في محاولة فجة لتبرير الرقابة.
لكن ثمة سؤال جوهري يُطرح هنا: هل يحق لشركة تكنولوجيا أن تصادر حقوق مليارات المستخدمين بحجة التزامها بالمصالح السياسية للدول الخاضعة لسيطرتها؟
والجواب البديهي هو: لا يحق لها ذلك. ولكن كما رأينا، لا يوجد ما يمنعها من ذلك. إذن دعونا نُلخص مشهد الرعب الافتراضي في عبارة واحدة: إن بقاء المقاطع التي توثق جرائم الحرب أو إزالتها، لم يعد بيد القانونيين أو المدافعين عن العدالة، بل صار مرهونًا برحمة الخوارزميات.
ليست رقابة.. بل إبادة ثانية
من الضروري التأكيد مجدداً أنّ حروب العصر الحديث لم تعد تُخاض في ميادين القتال وحدها، بل في محرّكات البحث أيضاً تُحرز الانتصارات أو تُمنى الهزائم.
إن المنصات الرقمية لم تعد مجرد شركات تكنولوجيا؛ بل أصبحت تمارس هندسة الذاكرة أيضاً. إنها تقرر من سيُذكر ومن سينسى. وبهذا، تتحول الرقابة الرقمية إلى أداة أكثر فاعلية من أساليب الدعاية الكلاسيكية: فهي تُخفي، وتحذف بصمت، وتُنْسِي دون أن تترك أثراً.
بل إن عملية "التطهير الرقمي" التي تُمارس تحت ستار كذبة "الحياد"، هي في الحقيقة تحمي المسؤولين عن الإبادة الجماعية. فمقتل الصحفي صالح الجعفراوي بطريقة وحشية، والذي كان ينقل صمود غزة إلى العالم، وحذف مقاطع الفيديو التي صورها من يوتيوب و إنستغرام، يخدم الشرّ نفسه والعقلية الصهيونية ذاتها. إسرائيل تقتل الحقيقة بإبادة الأجساد، ويوتيوب يقتلها بمحو الذاكرة. حتى الحقيقة نفسها باتت بحاجة للحماية، وإسرائيل الآن تبيد مقاطع الفيديو التي بقيت كشاهد على من قتلتهم.
والنتيجة المروعة التي وصلنا إليها هي أن مصير الشاب الذي يسجل الحقيقة بكاميرا هاتفه المحمول في غزة أصبح مرهوناً لرحمة الخوارزمية التي ستحذف هذا الفيديو بعد ثوانٍ قليلة. والخوارزمية لا ترحم، فبينما يبذل هذا الشاب آخر محاولاته ليدلي بشهادته ويحافظ على إنسانيته، تقوم الخوارزمية الصهيونية بإبادة كل ما هو إنساني بذريعة "عدم التوافق مع المعايير".
علينا أن نشمر عن سواعد الجد
ماذا يجب أن نفعل في هذه الحالة؟ في خضم الحروب، ليس لدينا ترف أن نشهد الدماء والدموع والإبادة الجماعية ثم نستسلم بلصمت. يستطيع يوتيوب أن يمحو الماضي، وسيفعل ذلك. فهدفهم هو دفن الشهادات في مقابر رقمية، تماماً كما أبادوا جسد صالح الجعفراوي.
واجبنا هو نقل تلك "الأدلة" إلى المستقبل.لكن هذا ليس مجرد عمل أرشفة تقني يمكن أن تضطلع به وسائل الإعلام فحسب، بل هو معركة حفاظ على الذاكرة تتطلب تضافر جهود المحامين والمراقبين. وفي هذا الإطار، خطت وكالة الأناضول خطوة عملاقة من عبر توثيق جرائم الحرب في غزة تحت اسم "الدليل"، حيث وثقتها ونشرتها في كتاب. ويمكن لهذا الرصيد الضخم أن يتحول إلى منصة دولية لمواجهة سياسة يوتيوب والمنصات الأخرى التي تخدم إسرائيل وتعمل على تدمير الأرشيفات. وكما تحاكم “محكمة غزة” إسرائيل باسم الإنسانية، فثمة حاجةٌ ماسّة إلى منظمة مدنية توثّق جرائم الحرب في غزة، وتحفظ المواد المنشورة وغير المنشورة، وتحللها وتصدر عنها تقارير موثّقة. علينا أن نشمّر عن سواعد الجد.
أيام الخيارات الصعبة قادمة
أود بهذه المناسبة فتح موضوع صادم لمناقشته بعمق في الأيام القادمة: إن موجة الحظر ستستهدف قريباً المستخدمين العاديين الذين يتضامنون مع غزة، فالخوارزميات التي صممتها "إسرائيل" تُصنفنا منذ فترة طويلة لا كـ"مستخدمين" عاديين، بل كـ"بقية ناجية من غزة". لقد كانت الإجراءات مثل حذف المحتوى والقيود وتقليل التفاعل مجرد تدريبات أولية لتطوير خوارزميات الإبادة الجماعية الحالية، واختباراً لـ"ولاء" المستخدمين لمنصات التواصل. واليوم، إذ تحاول إسرائيل إنقاذ ما تبقّى من صورتها المهتزّة، تستعدّ لإطلاق حربٍ شاملةٍ على الإنسانية جمعاء عبر منصات التواصل. أي أننا مقبلون على أيامٍ نُجبر فيها على الاختيار: هل سنرضخ لـ“قواعد المجتمع” المزعومة؟، أم سنضع جانباً الإعجابات والمشاركات والمشاهدات، ونقاوم عبر الشاشات المفتوحة أمامنا؟
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة