
بينما ما زلنا نواجه الصدمة الجغرافية التي سببتها الإبادة الجماعية في غزة، بدأت هذه المرة في السودان مشاهد مماثلة من الوحشية. فقد أطلق تنظيم «قوات الدعم السريع» الإرهابي، المدعوم من إسرائيل والموجّه من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة، مجازر دموية فور سيطرته على مدينة الفاشر في الجنوب.
يُدفن الناس أحياءً في التراب، وتُنفّذ عمليات إعدام جماعية، وتُمارس أساليب وحشية لا يمكن تخيّلها لطرد المدنيين من مناطقهم. هذه العصابات التي لا تعترف بأي قانونٍ دولي أو مبدأ إنساني، تنقل ما ارتُكب في غزة حرفيًا إلى جنوب السودان.
نشهد اليوم في السودان مثالًا آخر لما يمكن تسميته «عولمة الإبادة الجماعية». ولا توجد جهة، دولة، أو ما يُسمّى «الرأي العام الدولي» قادرة أو راغبة في التدخّل لإيقاف هذا الجنون. في القرن الحادي والعشرين نعيش هنا أحد أبشع صور تقليص قيمة الحياة الإنسانية في القارة الإفريقية.
الجهات التي فصلت جنوب السودان في الماضي، أطلقت حربًا أهلية جديدة لإخضاع السودان أو تقسيمه مجددًا إذا لم تتمكّن من السيطرة عليه، سعيًا لانتزاع إقليم دارفور. وقد دمّرت هذه الحرب المستمرة منذ سنوات هذا البلد الكبير وأهله الطيبين، وحوّلت واحدة من أقوى دول المنطقة إلى أنقاض.
كان جنوب السودان غنيًا بالنفط والمعادن، فاستولوا عليه. أما إقليم دارفور، فهو منطقة غنية بالنفط والغاز والذهب، وها هم الآن ينهبونه. وهنا نرى مجددًا كيف تؤدي عمليات النهب المنظّمة للموارد إلى تدمير الدول وإفقار الشعوب.
لنقلها بصراحة: تطبّق الإمارات وإسرائيل خططًا مرعبة تهدف إلى تدمير كامل الجغرافيا الممتدة من البحر الأحمر إلى الخليج العربي. هذا الثنائي كان متضامنًا في غزة، وتحرّك معًا خلال الحرب الأهلية الليبية وفي مخطط تقسيم ليبيا. والآن يتحرّكان معًا في السودان وشرق إفريقيا. أما حرب اليمن، فكانت مشروعًا إماراتيًا دمّر البلاد واحتلّ بعض أراضيها مثل جزيرة سقطرى.
التحالف الإماراتي-الإسرائيلي، القائم على هدفين أساسيين: بناء قوة جيوسياسية والسيطرة على الموارد ونهبها، هو استمرار لخطط التقسيم والتفتيت التي شهدناها منذ الحروب الصليبية وبلغت ذروتها في الحرب العالمية الأولى، وهو يُنقل اليوم إلى القرن الحادي والعشرين. ولكي لا تتضرر دولٌ أخرى، يجب وقف هذا العدوان المشؤوم قبل أن يتوسع.
سبق أن شكّلت الإمارات وإسرائيل، إلى جانب السعودية، شراكةً إقليمية ضدّ تركيا، وبنتا جبهة في البحر المتوسط مع اليونان وإسرائيل والجزء اليوناني من قبرص لـ«إيقاف تركيا»، لكن تلك الجبهة فشلت وانتهت إلى الانهيار.
الدافع الأساسي للإمارات هو تأمين مصالح إسرائيل وضمان مناطقها الأمنية ومنع صعود أي قوى قد تُشكّل تهديدًا لها. إلا أنّ دولةً تُعادي جغرافيتها بأكملها لا يمكن أن تنجح على المدى الطويل. لو وجّهت الإمارات وجهها نحو محيطها الطبيعي وبنت شراكات قائمة على السلام والتكامل، لكانت حققت نفوذًا أكبر بكثير.
عمل التحالف الإماراتي-الإسرائيلي سابقًا في سوريا وليبيا والصومال وشرق البحر المتوسط من أجل تقليص النفوذ التركي وإضعاف مناطق تأثير أنقرة. واليوم ينفّذ الخطة ذاتها في السودان.
كلّ الحروب الأهلية والاحتلالات في منطقتنا تُنفّذ عبر التنظيمات الإرهابية. فتركيا حوصرت خمسين عامًا باستخدام تلك التنظيمات، واحتُلت أفغانستان بذريعة الإرهاب، وتم تفكيك سوريا وعدد كبير من الدول الإفريقية بالطريقة ذاتها. والآن يُعاد السيناريو نفسه في السودان عبر تنظيم الدعم السريع. أما دول مثل مالي وتشاد ونيجيريا، فتُحاصرها أيضًا التنظيمات الإرهابية.
يجب أن يُقال بوضوح: جميع هذه التنظيمات أنشأتها الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل. فبذريعة الجماعات «الإسلامية» المصطنعة، تُهيّأ الدول للاحتلال والنهب، ثم يجري التدخّل المباشر. بوكو حرام، والشباب، وداعش كلها أدوات بيد الغرب وإسرائيل. لقد دُمّرت شعوبنا وأوطاننا من خلال هذه التنظيمات، ومع ذلك ما زال بعضنا يقع في الالتباس ويقوّي أيديهم دون وعي.
استخدام التنظيمات الإرهابية أداةً للسيطرة على موارد الدول هو تقليدٌ غربي قديم. هذا هو جوهر الاستعمار منذ قرون: إخضاع بالقوة، ونهب، وتحكم، وإذلال.
تسير الإمارات اليوم على هذا النهج، وأقرب دولةٍ إليها ذهنيًا هي إسرائيل.
وفي السودان، يفعل الطرفان الشيء نفسه مجددًا: يتقاسمان بلدًا أنهكته الحرب الأهلية، ولا يترددان في التضحية بالشعوب والمدنيين. هذا هو الأسلوب نفسه الذي تطبّقه إسرائيل في غزة، لكن التاريخ يثبت دائمًا أن مثل هذه التدخلات تُرتدّ على أصحابها بثمنٍ باهظ.
هذه الطريقة لا تستهدف السودان وحده، بل تمتد إلى فنزويلا ونيجيريا أيضًا. فاستعداد الولايات المتحدة لغزو فنزويلا دون أي مبرّر، وتهديدها لنيجيريا بذريعة «الهجمات على المسيحيين»، ينتميان إلى التقليد ذاته: السيطرة على الموارد، وإن تعذّر ذلك، استخدام الإرهاب، وإن فشل الأمر، اللجوء إلى الغزو وتبريره بخطابٍ ديني أو إنساني زائف.
في جنوب السودان يوجد الذهب والنفط والغاز. وفي فنزويلا الذهب والنفط والغاز. أما نيجيريا فهي من أكبر منتجي النفط في العالم. لهذا تستخدم أمريكا وإسرائيل والإمارات أكثر أساليب الدعاية انحطاطًا لإقناع العالم بحججٍ واهية من أجل نهب تلك الموارد.
لكن لم يعد لهذه الدعايات أي تأثير على الإنسانية. ومع ذلك سيتمادون أكثر ويقولون: «فنزويلا لي»، «السودان لي»، «نيجيريا لي». إنهم حتى يستهينون بفكرة الشراكة مع الدول التي ينهبونها.
شعارهم واضح: «كل شيء سيكون لي». أما الدول والشعوب؟ فلا قيمة لها عندهم. وإن اقتضى الأمر، يُباد شعبٌ بأكمله. هكذا يسعون إلى تعميم نموذج غزة على مستوى العالم. وعلى البشرية أن تكون مستعدة لذلك.
توسّع نفوذ تركيا في إفريقيا يثير قلق العديد من الدول. فالشراكات التي بنتها أنقرة في إفريقيا الوسطى تُعد نموذجًا عالميًا ناجحًا. دعمها لحكومة الخرطوم وسعيها للحفاظ على وحدة السودان تتابعه كل الدول، وبشكلٍ خاص أعداؤها. لذلك يجب على تركيا أن تقدّم دعمًا قويًا للحكومة السودانية، حتى وإن تطلّب ذلك بعض المخاطر. فإذا تمكنت الإمارات وإسرائيل من ترسيخ وجودهما في جنوب السودان، فستوجهان بعد ذلك ضرباتهما إلى كل الشراكات التي بنتها أنقرة في إفريقيا الوسطى، وصولًا إلى تركيا نفسها.
منطقة الساحل هي العمود الفقري لإفريقيا، وتركيا اليوم أقوى قوةٍ فيها. إذا تمكّنوا من كسر هذا العمود، فسيفقد الوجود التركي في القارة جدواه، وهذا بالضبط هو هدفهم. فالحرب الدائرة في جنوب السودان تهدف إلى ذلك تحديدًا. لذلك، على تركيا أن تعكس هذا الدمار في السودان بدعمٍ عسكري حاسم، وهي تملك القدرة الكاملة على فعل ذلك.
تركيا تخوض صراعًا مفتوحًا مع إسرائيل في أكثر من ساحة: في غزة، وليبيا، وسوريا، ولبنان، والصومال، وحتى داخل أراضيها من خلال الإرهاب السياسي.
لكن عند النظر إلى المشهد الجغرافي العام، يتّضح أن النهج التركي يقوم على بناء شراكاتٍ طويلة الأمد وأكثر استقرارًا، ما يجعل احتمال خسارتها في أي من هذه الجبهات ضعيفًا جدًا.
لهذا السبب ينبغي لتركيا أن تعزّز دعمها العسكري للحكومة السودانية، وتقلب مسار الحرب والإبادة في السودان. يجب استعادة السيطرة على الفاشر ومنع تقسيم السودان مجددًا، وإيقاف مشروع التحالف الإماراتي-الإسرائيلي في دارفور. تركيا قادرة على فعل ذلك، وتملك القوة اللازمة لذلك.
على الرأي العام التركي أن يطوّر حساسية تجاه السودان تماثل حساسيته تجاه غزة. عليه أن يدرك أن هذه الهمجية هي استمرار للأسلوب الإسرائيلي ذاته في الإبادة، وأن البلدين (الإمارات وإسرائيل) يتحركان بخطة تهدف إلى ضرب النفوذ التركي في إفريقيا الوسطى.
من لم يتمكن من مهاجمة تركيا من حدودها المباشرة أو من جوارها، بدأ الآن يهاجم وجودها في الدائرة الأوسع. القضية لا تقتصر على السودان فحسب، لكن حتى لو اقتصرت عليه، ينبغي محاسبة الدول التي تغذّي هذه الوحشية. يجب التفكير منذ الآن في مدى خطورة مشروع "عولمة الإبادة" واتخاذ الإجراءات اللازمة لردعه.
استهداف ترامب المتكرر لفنزويلا ونيجيريا وتهديده بغزوهما هو توسيع لنموذج السودان نفسه، ويشير إلى مستقبلٍ في غاية الخطورة. فاتهام نيجيريا بأنها «تعادي المسيحيين» ما هو إلا غطاء لخطة نهب نفطها، ويجب فضح هذا المشروع الإجرامي ووقفه.
صحيح أنّ الولايات المتحدة لا تملك القدرة على احتلال تلك الدول بالكامل، لكنها قادرة على جرّها إلى فوضى طويلة ومؤلمة. ومن الواضح أن التنظيمات الإرهابية في نيجيريا أسّستها ودعمتها إسرائيل والولايات المتحدة.
لا يوجد أي مبرر لغزو الولايات المتحدة لفنزويلا سوى هدفٍ واحد: السيطرة على بحر النفط الهائل هناك. لقد بلغ الانحطاط الأخلاقي ذروته. ونرى في مثال فنزويلا كيف تحوّلت جائزة نوبل إلى أداة استعمار وإبادة جماعية؛ إذ فُتحت أبواب تدمير بلدٍ وشعبٍ كامل من خلال «عميل داخلي» مُستغلّ باسم الديمقراطية.
تركيا يجب أن تبني قوة استثنائية: محور تركيا هو الأمل الوحيد
للأسف، يسير العالم نحو مستقبلٍ مظلم كهذا. ولهذا السبب، فإن بناء قوةٍ استثنائية من قِبل دولٍ مثل تركيا — التي تتحدث باسم الإنسانية ومستقبلها — أصبح ضرورةً لا بدّ منها.
لا سبيل آخر لمقاومة هذه العاصفة الشريرة سوى ذلك. الأولوية القصوى لتركيا هي بناء هذه القوة، رغم كل العراقيل، وجعل «محور تركيا» فضاءً للتنفس والأمل.
تتراكم العواصف الكبرى في الأفق، ولم يعد لدى أحدٍ ترف الانشغال بصغائر الأمور الداخلية.
لقد حمّل التاريخ والجغرافيا أولئك الذين يشهدون هذا العصر مسؤوليات جسيمة. لذلك، فإن مسيرة «عولمة تركيا» تسير اليوم بخطى الشجعان الذين يصنعون التاريخ.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة