إن البيان الذي تلاه علماء المسلمين يوم الجمعة الماضي أمام جامع آيا صوفيا الكبير بشأن غزة، جرى في أجواء أشبه بوقفة جماهيرية صغيرة، إذ حظي بمتابعة حثيثة من المصلين الخارجين ومن الناس المتجمّعين في الساحة. ولم تقتصر هتافات الحاضرين على التأييد والدعم فحسب، بل حملت في طياتها أيضًا رسائل واضحة تعكس حجم التوقعات والآمال المعلّقة على العلماء. غير أنني من خلال ما سمعته مباشرة أو مما باح به بعض الحاضرين في ختام الاجتماع، أدركت أن البيان لم يكن على قدر توقعاتهم.
فما الذي كان يتوقعه الناس إذن؟
بعد أن رأى الناس مرارًا أن الجهود المبذولة من أجل غزة لم تفضِ إلى نتائج ملموسة، تراكمت في صدورهم موجات من الغضب العارم، إذ لم يعد بمقدورهم تقبّل العجز. فكيف يمكن لجزء صغير من الأرض، بعدد محدود من السكان، أن يضع أمة تعدّ بالمليارات في موقع العاجز أمام إسرائيل؟ هذا الوضع يولّد نقمة متزايدة تقترب من لحظة الانفجار، فتغدو الجهود المبذولة بلا قيمة أو جدوى في نظر الناس. ورغم كل محاولات التذكير بأنه لا شيء يضيع هباءً، إلا أن هذا الخطاب المتعقّل لم يعد قادرًا على تهدئة الجماهير أو إرضائها أمام هول ما تواجهه غزة.
لقد مرّ سبعمئة يوم على الهجوم الوحشي الإبادي ضد شعب غزة، وخلال هذه المدة نفسها، لم تؤدِّ كل مظاهر التضامن مع غزة إلى منع مقتل الأطفال، بل إن الناس اليوم يُجبرون على متابعة موتهم جوعًا أيضًا، باسم “التضامن”، وهو ما يفتح في النفوس جراحًا لا تندمل، ويثير عواصف لا تهدأ.
وحين أسأل: “ما العمل إذن؟ هل على تركيا أن تعلن الحرب على إسرائيل، وبالتالي على الولايات المتحدة؟”، لا أحد يجيب. ولكن الكثيرين يؤكدون أن هناك الكثير مما يمكن فعله دون خوض حرب مباشرة. بل إن العديد منهم يقول: “افتحوا لنا الطريق، وسنذهب نحن للقتال”.
ويقولون: "للدول علاقاتها وحساباتها السياسية الواقعية التي تُقيدها، لكننا كشعب مستعدون للذهاب".
ويقترح أحدهم قائلاً: "لتتحد مثلا باكستان، وإندونيسيا، وماليزيا، وقطر، والجزائر، وغيرها من البلدان التي تتبنى مواقف واضحة تجاه فلسطين، ولتشكل أسطولاً إغاثياً يحمل جميع أعلامها معاً، وليتجه هذا الأسطول نحو غزة بدعم جوي، على أن يكون هدفه الإنساني بعيداً عن أي قصد عسكري. فإن كان الاحتلال الإسرائيلي يجرؤ حتى على مهاجمة سفن السلام، فليتحمل حينها عواقب فعلته". هذه الفكرة تحولت تقريباً إلى ما يشبه "العقل الجمعي" للشارع.
الاعتراف بفلسطين لا يوقف الإبادة الجماعية في غزة
بدأت غالبية الدول الأوروبية تتخذ موقفًا لم يكن متصورًا من قبل ضد إسرائيل، حيث أعلنت العديد منها أنها ستعترف بفلسطين في سبتمبر أو أكتوبر، وربما خلال اجتماعات الأمم المتحدة. ولكن ما جدوى هذا الاعتراف إن لم يوقف فعلياً الإبادة الجماعية المستمرة في غزة حتى الآن؟. وأي فائدة تُرتجى من وعود عقابية مستقبلية ضد إسرائيل، بينما غزة غارقة في الدماء اليوم؟ بل على العكس، فإن إسرائيل تستمد جرأتها من هذه الوعود والإجراءات الباهتة، مستغلة عجز العالم، لتقضي على أي وجود للشعب الفلسطيني، بحيث لا يبقى هناك شعب لدولة فلسطين التي سيُعترف بها مستقبلًا. فكل الخطابات التي تهدف إلى إيقاف إسرائيل تعتمد على طرف آخر، ولا أحد يجرؤ على تحدي إسرائيل بشكل مباشر. هذا الخطاب بطبيعته، لا يُحدث أي تأثير على إسرائيل، ولا يوقف نزيف الدم في غزة.
من سينقذ الإنسانية من هذه الأزمة؟
تواجه الإنسانية اليوم إحدى أكبر أزماتها التاريخية، أمام هيمنة نظام عالمي محورُه إسرائيل، يدوس على كل القيم الإنسانية. ورغم ذلك، توفر كل أزمة فرصة حقيقية للخروج منها. لا شك أن من سيُخرج البشرية من هذه الأزمة، سيحمل على عاتقه مهمة إعادة بناء العالم وإرساء نظام جديد. ولا شك أن شعب غزة الذي رفع راية التمرد على هذه الهيمنة، قد انضم إلى صفوف أعظم الأبطال في التاريخ. والسؤال الآن: من سيقف متضامنًا مع هؤلاء الأبطال لإنقاذ شعب يتعرض للإبادة الجماعية؟ فالظروف تزداد إلحاحًا وخطورة، وتفرض هذا النداء. وكما جاء في القرآن الكريم: "وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا" (النساء: 75).
أما إذا لم يتحرك أحد، فستُسجل أفعالنا في التاريخ على أنها تقاعس كامل أمام الإبادة في غزة، بغض النظر عن حالتنا الراهنة. وهذه الحالة النفسية تولّد غضبًا جماهيريًا متناميًا، حيث يشعر الناس بالحاجة إلى القيام بشيء ما، وهذا بحد ذاته يشكّل تهديدًا كبيرًا للنظام الصهيوني. ولذلك، يُتوقع من الحكام الموالين للنظام في هذه المرحلة أن يقمعوا شعوبهم. وحتى لو كانت الدول عاجزة عن التحرك، فإن شعوب العالم وضمائرهم لا تستطيع قبول ما يحدث، وتريد القيام بشيء ما. ومن هنا جاء بيان العلماء ليحثّ خصوصًا الأنظمة العربية على "ترك شعوبها حرة في التظاهر والاحتجاج". فلو لم يقم النظام المصري بقمع شعبه، لما استطاع أحد أن يمنعه من الوصول إلى حدود إسرائيل.
الخبر ليس في انطلاق الأسطول، بل في صمت العالم على هذه الإبادة
تتحرك الشعوب على المستوى العالمي. فبالأمس، أبحر "أسطول الصمود العالمي" الذي كان يُجهز له منذ فترة، إلى البحر المتوسط في محاولة لكسر الحصار اللاإنساني الذي تفرضه إسرائيل على غزة. ويضم الأسطول نشطاء وفنانين وسياسيين من ذوي الضمائر الحية من جميع أنحاء العالم. وانطلق الأسطول، الذي يتكون من 20 سفينة وأكثر من 300 متطوع، من ميناء برشلونة، بعد حصوله على دعم من 44 دولة، ليبدأ رحلة تاريخية نحو غزة. ومن بين المشاركين شخصيات بارزة مثل الناشطة غريتا ثونبرغ، والممثل الأيرلندي ليام كونينغهام، وعمدة برشلونة السابقة آدا كولاو. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 500 ألف متطوع تقدموا بطلبات للانضمام إلى الأسطول منذ الإعلان عنه، وهو رقم كبير يدل على أن أي حملة مماثلة ضد إسرائيل اليوم يمكن أن تحرك ملايين الناس.
إن هذا الحراك الشعبي هو نذير بنهاية إسرائيل التي صنعتها بيديها. فالتهديد الأكبر لإسرائيل ليس سوى إسرائيل نفسها.
إن كلمات غريتا ثونبرغ، التي قالتها عند انطلاق الأسطول: "خبر اليوم ليس انطلاق الأسطول، بل صمت العالم على هذه الإبادة" يشير إلى صمت الغرب، ولكنه في الوقت نفسه ينذر أيضًا بقدوم "تسونامي عالمي مُتصاعد".
نتمنى لأسطول الصمود العالمي رحلة موفقة، وأن يصل إلى وجهته بسلام، وأن تكون رحلتهم مباركة.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة