
خلال الأيام القليلة الماضية، احتل خروج ترامب إلى إسرائيل ومصر المرتبة الأولى في اهتمامات الساحة العالمية. شاهدنا عرضًا غير عاديٍّ لذلك الرجل الذي يُعدّ من أغرب الشخصيات في تاريخ الزعماء. ترامب، الذي يتباهى دائمًا بأنه أنهى سبع حروب حتى الآن، يريد الآن أن يسجّل فوزه الثامن عبر إنهاء حرب غزة. وقد أطلق على إنجازه اسم «سلام ترامب».
نحن إزاء شذوذ سياسي نرجسي بلغ أوجه. خطاباه أمام الكنيست وفي شرم الشيخ كانا فاضحين إلى حدٍّ كبير، ولن أطيل في التفصيل هنا. ما يثير قلقي بعمق هو تلوث مفهوم السلام إلى هذا المستوى. لقد صار طعم الملح فاسدًا؛ مفهوماً عنصريًا، مؤمنًا بتفوّق البياض/المسيحية وبالفاشية، يحتضن مفهومًا صهيونيًا محضًا للسلام، ويتلفّع به ويتلفّظ به كأنه خطاب طبيعيّ. يتحدّث عن السلام بصوتٍ يحمل خطابًا مرضيًا يفتخر بأن الأسلحة «العجيبة» التي زود بها إسرائيل تم استخدامها من قبل جيشها «بشكل رائع». لقد انقطعت صلة الحضارة بضماناتها؛ تلاشت التناقضات التي كانت تفصل بين العسكرة ومفهوم السلام.
في السابق كان يُناقش موضوع «الحرب من أجل السلام» أو الحروب «المشروعة»—وخاصة في سياق الحروب المناهضة للاستعمار والهيمنة الإمبريالية. أتذكّر كلمة نكسون عندما أنهى الحرب في فيتنام؛ اكتفى قائلًا ببساطة «انتهت الحرب» (The war is over). كان ثمّة قدر من الحياء يمنع المنتصرين العسكريين أو المعتدين من الادعاء بأنهم «جلبوا السلام». السوفييت المنهزمون في أفغانستان لم يستطيعوا ذلك أيضًا، واكتفوا بالإعلان عن قرار الانسحاب. عندما يهاجم العسكر مكانًا ما، يبدأون بتجميل فعلتهم بكلمات كهـذه: نأتي بالديمقراطية والحضارة وحقوق الإنسان. وعند هزيمتهم، يرمون باللوم على الحركات المحلية المقاومة و»الشعوب المتخلفة» التي لا تفهم الحضارة والديمقراطية. لكن الأمور في غزة ازدادت تعقيدًا؛ خطوط التفاصل اختلطت والأوضاع باتت تمرُّ بقصر دائرة.
لننظر إلى المشهد... كان للاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة وما تلاه من إبادةٍ هدفان أساسيان: إنقاذ الرهائن والقضاء على حماس. والسؤال: هل نجحوا؟ الجواب المختصر: لا. تحت وابل القصف تسببوا بمقتل شريحة كبيرة من شعبهم ذاته. عدا عن فترة الهدنة المؤقتة التي أطلقت فيها حماس طوعًا عدداً قليلاً من الرهائن، لم ينجحوا في إنقاذ رهائن آخرين. ثانيًا، لم يتمكّنوا من إلغاء حماس. نعم، دمروا غزة حتى لم يبق حجر فوق حجر، وأدَّى ذلك إلى مقتل مئات الآلاف من الناس—صغارًا وكبارًا—وبقي الباقون بلا مأوى، جياعًا، وغير قادرين على دفع ما يحتاجون إليه. ومع فشلهم في تحقيق أهدافهم تصاعدت وحشيتهم؛ تجاهلوا قوانين الحرب، وقصفتْ مشافيهم بلا رحمة، وقتلوا مئات الصحفيين.
ما صدمهم فعلاً هو تحوّل الرأي العام العالمي ضدهم. وتعرّضوا أيضًا لضغط داخلي هائل: استمرت مسيرات ومظاهرات أقارب الرهائن والجموع المنخرطة فيها دون انقطاع، حتى لم تعد القوى الفاشية الإسرائيلية قادرة على حمل هذا العبء. هنا تدخلت الولايات المتحدة وترامب فورًا. الهدنة التي تحققت تُظهِر عمليًا هزيمة الصهيونية. أهل غزة، هذا الشعب الباسل، رغم كل المعاناة لم يترك أرضه. لو أُقدموا على خطوة مجنونة لضم غزة بالكامل لكان ما حدث أسوأ من سياسات بول بوت بكثير؛ لكان إبادةً لا تقارن، ولحصلت إسرائيل على لقب «دولة ملعونة في القرن الحادي والعشرين»، ولجعلت الإسرائيليين عاجزين عن الخروج في الشوارع. ما يُقدّم باسم «سلام ترامب» هو في حقيقة الأمر مسألة إنقاذٍ لنتنياهو وشلّته من هذه المحنة. وكأن الولايات المتحدة ليست شريكًا في هذه المجزرة؛ لكنها نزلت إلى الميدان متظاهرة بدور المُنقذ، وقد جرّت وراءها عشرات الدول. قابَل «سفّاح غزة» نتنياهو هذا الدور بحرارةٍ بالغة. في كلامه أمام الكنيست، أعلن ترامب بوضوح دعمه المطلق لإسرائيل واصفًا نفسه الراعي المتشدّد لها. الخلاصة السريعة: في هذا «السلام» لن تكون الولايات المتحدة حيادية، بل ستتتبّع مصالح إسرائيل. والأمر لا يقتصر على هذا؛ تريد الولايات المتحدة—and شركاؤها من بريطانيا ودولٍ أخرى—إقحام حلفائها في هذا النهب. الجناح المتطرّف في الحكومة الإسرائيلية بالطبع غير راضٍ عن ذلك؛ هم يطمحون لضم غزة كاملًا. لكن هذا لن يحدث. ترامب، كما في كل شئ، لن يتنازل عن نصيبه قبل الإقدام على أي خطوة. ثمن تبييض نتنياهو وهذا المشروع يتحدّد هناك.
في وثيقة النوايا تُرادُ لتلك الإبادة أن تُطمس وتُبرّر باسم السلام. لكنّ ما فُعل قد فُعل، والمجرمون سيظلّون على أفعالهم؛ لا تُمحى الذنوب بمجرد إعلان السلام، ولن تُخلى ذمتهم من المساءلة.
مسار «السلام» يرمي عمليًا إلى تفريغ غزة من الفلسطينيين، وفتح إدارتها لتقنية بيروقراطية/تكنوقراطية تُهدر قضية فلسطين رويدًا رويدًا. يريد نتنياهو ومن على شاكلته تحويل ما يمكنهم فرضه بالقوة والعنف إلى أمرٍ تدريجي ومنهجي عبر الزمن.
خلال الأيام القليلة الماضية، توقف القتل في غزة نسبيًا، وبدأت المساعدات تتدفّق ببطء، وتأمّن الدواء والطعام للبعض—وهذه معانٍ عظيمة من العزاء لنا. الموقف الإنساني هو تحديد موقف تركيا أيضًا. لكن علينا أن نأخذ بالحسبان أن الطريق المقبل شديد التعقيد. في عملية «السلام» هذه، إلى جانب قطر، تبدو تركيا هي القوة الوحيدة التي تحمي حماس نوعًا ما. فأين سنصل مع دولٍ عربية مثل مصر والسعودية والإمارات—التي لا تكنّ أي ودّ لحماس بل ربما تبتهجُ لزوالها—لا أعلم. أملي الصادق أن تكون هذه العملية قد دُرِسَت دراسةً متأنّية من قِبَل عقل الدولة التركية، وأن تُؤطّر أولوياتها حفاظًا على شعب فلسطين وشعب غزة.
كنا نفهم سابقًا أن الحرب من أجل السلام لكن هل نحن اليوم أمام «سلام يمهد لحروب أكبر»؟ سنرى، وسننتظر…
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة