التقارب مع أوروبا

08:0530/10/2025, الخميس
تحديث: 30/10/2025, الخميس
سليمان سيفي أوغون

تشير التطورات الأخيرة إلى سلسلة من التقاربات بين تركيا وأوروبا، ويجب تقييم هذه الأحداث بعناية ضمن سياقها التاريخي والسياسي. تجربة تركيا في مسار "الغربنة" أو التحديث المعاصر تُظهر عملية ديناميكية ومعقدة. ويمكن القول إن أبرز تجليات هذه التجربة تكمن في مسار تركيا نحو الاتحاد الأوروبي. فقد انخرطت تركيا في هذا المسار منذ ستينيات القرن الماضي، حين تقدمت بطلب الانضمام، وأدى ذلك إلى جدالات سياسية وثقافية محتدمة. في سبعينيات القرن الماضي، شهدت الساحة السياسية التركية توترات كبيرة، إذ عارض كل من حزب الشعب

تشير التطورات الأخيرة إلى سلسلة من التقاربات بين تركيا وأوروبا، ويجب تقييم هذه الأحداث بعناية ضمن سياقها التاريخي والسياسي.

تجربة تركيا في مسار "الغربنة" أو التحديث المعاصر تُظهر عملية ديناميكية ومعقدة. ويمكن القول إن أبرز تجليات هذه التجربة تكمن في مسار تركيا نحو الاتحاد الأوروبي. فقد انخرطت تركيا في هذا المسار منذ ستينيات القرن الماضي، حين تقدمت بطلب الانضمام، وأدى ذلك إلى جدالات سياسية وثقافية محتدمة.


في سبعينيات القرن الماضي، شهدت الساحة السياسية التركية توترات كبيرة، إذ عارض كل من حزب الشعب الجمهوري وحزب الرفاه (MSP) – ممثل حركة "الرؤية الوطنية" آنذاك – انضمام تركيا للسوق المشتركة الأوروبية (التي أصبحت لاحقًا الاتحاد الأوروبي)، رغم اختلافاتهما الداخلية، وكان شعار "هم المشتركون ونحن السوق" يعكس هذا الموقف بوضوح. وبالرغم من أن الانضمام للاتحاد الأوروبي كان قرارًا بيروقراطيًا، إلا أن الدعم السياسي الفعلي له كان ضعيفًا في تلك الفترة.


مع بداية ثمانينيات القرن الماضي، تغيّر المشهد. فقد أصبح حزب العمل الوطني الصاعد (ANAP) داعمًا بحماس للانضمام للاتحاد الأوروبي، كما جاء الدعم من اليسار، حيث بدأ التيار الليبرالي الجديد يخفف من حساسية اليسار المناهضة للإمبريالية. ومع تسعينيات القرن الماضي، أصبح "اليسار الجديد" أحد أبرز المؤيدين للاتحاد الأوروبي، وتلاه حزب العدالة والتنمية في الألفية الجديدة، الذي انفصل تدريجيًا عن حركة "الرؤية الوطنية" وبدأ يسعى للوصول إلى السلطة، حيث أصبح كلا الحركتين متوافقين في نهجهما الليبرالي.


ويبدو أن الدافع الأساسي لكلتا الحركتين، الممثلتين لليسار واليمين، كان الرغبة في التحرر من الهياكل العسكرية والفاشية التي خلفها انقلاب 12 سبتمبر، مع الاعتقاد بأن التكيف مع الهياكل الأوروبية يسهل تحقيق هذا التحرر. وبالتالي، كان الانضمام للاتحاد الأوروبي يُنظر إليه كوسيلة براغماتية وحتى انتهازية لتحقيق التحول المنشود.


يُعد قبول تركيا في مسار العضوية الكاملة خلال التسعينيات حدثًا مفصليًا، واحتفلت رئيسة الوزراء آنذاك تانسو هانم بهذا الإنجاز بحماس. ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، بلغت الثقة بتحقيق هذا الحلم ذروتها. وقد أسست تركيا وزارة الاتحاد الأوروبي، وأقسامًا للاتحاد الأوروبي في الجامعات، ومعاهد متخصصة، وامتلأت الساحة بالخبراء والمتخصصين، كما أُطلقت حزم التكيف، وانخرطت المؤسسات التركية بحماس في تنفيذ "واجباتها" كما لو كانت طلابًا مجتهدين.


لكن بين عامي 2000 و2010، لم تصل الأمور إلى المستوى المرغوب فيه. فقد اعتبر التيار الليبرالي الجديد أن الحكومة لم تفي بالالتزامات، وبدأت توجيه الانتقادات. ومع حلول العقد الثاني من الألفية، بدأت الأزمة السياسية الحقيقية، خاصة مع استمرار الاتحاد الأوروبي في إثارة القضايا الحساسة في تركيا، مثل القضية الكردية والقضية العلوية، وكان حادث "جيزي" نقطة تحول كبيرة، إذ بدأ يظهر توتر شديد بين السلطات الأوروبية وصانعي القرار الأتراك، وصولًا إلى انفصال تدريجي وتباعد حاد.


ومن التجارب المؤلمة، تعلمت تركيا أن الاتحاد الأوروبي، بصفته ناديًا مسيحيًا، لن يقبل تركيا المسلمة كعضو كامل. وأصبح واضحًا أن الاتحاد الأوروبي ضم قبرص الجنوبية كعضو كامل، رغم أن قوانينه تمنع قبولها أصلاً.


كما بدأت أزمات الاتحاد الأوروبي بعد عام 2000، بدءًا من أزمة 2008، تضعف اقتصاده، وزاد صعود الصين الضغوط على أوروبا، مما دفعها لمحاولة إنقاذ اقتصادها بأي وسيلة. لكن الوقت قد فات، وتذكر الأوروبيون وصفة قديمة: تحريك اقتصاد يعاني من الركود يتم غالبًا من خلال الحرب. وقد وفر الصراع الروسي-الأوكراني الأرضية لذلك، واستبدلوا خطر الشيوعية المزعوم بخطر التوسع الإمبريالي الروسي، وقرروا بسرعة عسكرة اقتصادياتهم.


لكن عسكرة الاقتصاد ليست كافية، إذ تواجه أوروبا تحديًا سياسيًا واجتماعيًا يتمثل في كيفية التعامل مع الطبقات الوسطى الضعيفة سياسياً والتي اعتادت على دولة الرفاه، وما يترتب على ذلك من تغذية النزعات العنصرية والكراهية تجاه الأجانب. كما أن هذه الموجة الفاشية الداخلية، رغم فاعليتها داخل البلاد، تبدو ضعيفة في مواجهة الخارج، فلا يمكن توقع تحويلها إلى جيش منظم، خاصة مع قلة الشباب المتاحين وانشغالهم بالمصالح الفردية.


في هذه المرحلة، بدأت أوروبا، بقيادة بريطانيا، تهتم بالعلاقة مع تركيا. وقد أشار ترامب للزعماء الأوروبيين إلى تركيا واصفًا إياها بأنها "تمتلك جيشًا متينًا". واليوم، يأتي القادة الأوروبيون واحدًا تلو الآخر لطلب التواصل مع تركيا، بعد أن كانوا يتجاهلونها.


فما الذي يحدث إذن؟ يبدو أن الأمور ليست احتفالًا ولا مناسبة خاصة، بل تحولات استراتيجية عميقة في العلاقة بين تركيا وأوروبا.

#العلاقات التركية الأوربية
#تركيا
#أوروبا