
تتعدد المصادر التي تصف العولمة بأنها ظاهرة ناشئة وحديثة العهد. لكن هذا التقييم، من جهة التاريخ، غير دقيق. فحكاية العولمة تمتد إلى أزمان بعيدة. فوجود شبكة المستعمرات بحد ذاته يحمل صفاتٍ عالمية، وقد لعب توسع رأس المال دورًا محوريًا وراء ذلك. أظنّ أن عمليّات تراكم/استثمار الرأسمال تختلف جوهريًا عن عمليّات التمدّد والدوران. الأول — أي بُعد التراكم —، كما نرى في التجربة الميركانتيلية، يحمل طابعًا حريصًا ومنغلقًا بقدر ما يطمح البُعد الآخر إلى الانفتاح. خلاصة القول: طبيعة الرأسمالية تقتضي أن تكون — بطبيعتها — عالمية.
فلماذا، إذًا، صار مصطلح «العولمة» مطلوبًا وملحًا في السنوات الأخيرة؟ يمكن أن نعزو السبب أولًا إلى التطورات التكنولوجية. فقد وجدت الرأسمالية، التي هي بذاتها قوة ذات ديناميكية عالمية، في الإمكاينات التكنولوجية الحديثة وسيلةً لتسريع أعمالها وتوسيعها. ومن هنا أصبح بإمكان المراكز الرأسمالية أن تجذب العالم بسلاسة أكبر.
لكن الأمر لا يقتصر على ذلك فقط. فقد طرأ في ذات الفترة كسر مهمّ على مسارات توسع رأس المال. كما كتبت مرارًا وأكدت في أماكن كثيرة، يُنتج الرأس المال ما أصفه بـ«الغاز» التاريخي؛ أي أنه يختلف عن الصيغ الصلبة للتاريخ الممثّلة بالدولة، وعن الصيغ السائلة الممثّلة بالأمم. الرأس المال قابل للتبخّر.
وعلاقاته مع الأشكال الأخرى — الدولة والأُمم — تستمرّ فقط طالما حافظت على معدلات الكفاءة/العائد التي يطمح إليها. وإذا ما صار اتجاه كفاءة رأس المال مقابل العمل هابطًا، فالرأسمال يرحل عن مواقع وجوده. وتاريخ تراكم الرأسمال مليء بتلك التنقلات. فذات يوم كانت هولندا وفرنسا وإنجلترا مراكز التراكم، ثم بعد الحرب العالمية الأولى استلمت الولايات المتحدة الراية.
عند تتبّع تنقّل مراكز الرأسمال من الصعب جدًّا، كما فعل ابن خلدون بالاستناد إلى تواريخ سيادة الدول، أن نحسب متوسطًا زمنيًا واضحًا. لذا لا مناص من العودة إلى تواريخ الأزمات والحروب. فمثلاً، سيطرة بريطانيا العالمية كانت في أوجها تقريبًا بين 1840 و1870 بمعدلات إنتاجية عالية. لكن منذ 1870 تغيّر المشهد، وبدأت معدلات الكفاءة بالهبوط بسرعة، فخرجت سيادة بريطانيا من طور الاستدامة.
وفي الفترة 1870–1914 برزت «الحقبة الجميلة» التي كانت مضلِّلة في جانب كبير: الجميع كان يُحضِّر للحرب. ثم تجاوزت بريطانيا الحرب العالمية الأولى بأشكال متفاوتة، لكنها تضرّرت، ورُغم ذلك أضعفت ألمانيا. أزمة 1929 ولدت بدورها الحرب العالمية الثانية. وعندما تعافَت ألمانيا وعاودت الظهور، قضى طموح هتلر غير المحسوب على حظوظ ألمانيا. بمقاومة السوفييت ودخول الولايات المتحدة تغير مسار الحرب، وهزمت ألمانيا.
أما بريطانيا فقد انسحبت تدريجيًا من المسرح. وهكذا صار المركز الجديد للرأسمال في الغالب الولايات المتحدة، فأصبحت أوروبا واليابان أقمارًا تدور حولها؛ وظهرت تقسيمات جديدة للعمل والنظام العالمي. لكن لكي تستمر ديناميكية المركز كان لا بدّ من وجود عدوّ، فبُني ضدّه تكتّل شبه مركزي تموضع في صورة «الكتلة السوفييتية»؛ كيان سياسي وقانوني وإيديولوجي قائم على معادلة الخصومة.
هيمنة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية استمرّت إلى حدٍّ كبير حتى سبعينيات القرن العشرين. ومنذ تلك الحقبة، كما حصل قبل حوالي قرن في بريطانيا، بدأت في العالم الرأسمالي المركزي المدفوع بالولايات المتحدة موجاتٌ من «التوسّع الطبقي الأوسط» التي ضيّقت هامش الكفاءة وزادت التكاليف. وظهرت أزماتٌ متتالية تقريبًا كل عقد، بل ازدادت طابعًا نظاميًّا.
ولإغلاق العجز الناتج عن هذه الخسائر لجؤوا إلى عمليات ماليّة مكثفة وإلى إعادة ترتيب قنوات التوزيع. الأموال المطبوعة طُمِحَ بها إلى ضخّ مجال الإنتاج، لكنها أضاعَت في قطاع الخدمات والاستثمارات الميّتة. وهنا صار نزوح الرأسمال حتميًا.
الرأسمال يلحق بتكاليف أقل، ومن هنا تنبني وظيفة «المعجزة» الصينية: في البداية جذبت استثمارات كثيفة العمالة، ثم قفزت إلى معالجات كثيفة رأس المال والتكنولوجيا، فقامت ـْـ كما لو أنها سحبت البساط من تحت أقدام «الغرب». وبدون دعم الرأسمال انهارت مؤسسات ومعايير الغرب بسرعة. وظهور النخب السياسية الفاسدة وصعود الفاشية والنازية والعنصرية وكراهية الأجنبي ليس بالحالة الطارئة. وفي هذه المرحلة عاد الغرب إلى أقدم وصفة للخروج من الأزمة: الحرب.
لكن لديّ شكوك جديّة في أن الحرب ستستعيد ما خسِرَته دول الغرب. والأهمّ من ذلك أن عجز الغرب الآن عميق إلى حدّ أن حتى تنفيذ هذه الخطة ستكون على نحوٍ رديء. فهم عاجزون أيديولوجيًا وسياسيًا عن تنظيم حربٍ فعالة. وبسبب طبقاتهم الوسطى الأنانية وانحسار أعداد الشباب، باتوا عاجزين حتى عن تشكيل قوات فعّالة.
كما يواجهون مشكلة وجود سيناريو جادّ يقنع العالم ويعبّئه للحرب. الصين اليوم تبنّت القيم العلمية والتقنية والاقتصادية العالمية التي كان الغرب يتباهى بها، ورفعت معاييرها إلى أعلى المستويات.
اتهامات «الشموليّة» أو «الاستبداد» أو «المجتمع المغلق» باتت تتهاوى في الفراغ؛ إذ إن الأمور تعود في نهاية المطاف إلى تبريرات بدائية من قبيل تمايز «المسيحيين/البيض» أو تفوّق العِرق الأبيض. أخيرًا، وبالتجاذب الكثيف بين الاقتصادين الشرقي والغربي أصبحت ردود مزاعم ترامب بلا أثر وترتد عليه، كما أن إخفاقاته في رحلاته الأخيرة إلى شرق آسيا تدعوني إلى هذه الخلاصات.
سيشنّون الحرب حتمًا في نهاية المطاف، لكن بالنظر إلى الشروط المذكورة أعلاه فليس ثمة طريق أمان ولا ضوابطٍ دقيقة تحكمها. خوفي أن هذه الغموض والارتباك قد يؤديان إلى اندلاع حربٍ تفجّر كارثةً جماعية للبشرية.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة